كنت أتطلع الى أعمال الرسام الروسي الذي عاش في باريس سوتين (1893-1943) والتي تعرض بمركز جورج بومبيدو في باريس حيث تحيط بها من الجانبين أعمال صديقه العبقري الآخر مودلياني، رسامان وضعت أعمالهما على جدار واحد وهما يحيطان بعضهما بعضاً بحنو ورقة وعذوبة تشبه عذوبة باريس نفسها. سوتين هذا الرسام المعذب الذي أفكرعند مشاهدتي لأعماله بمصير أغلب رسامي العالم الذين تركوا آثاراً عظيمة رغم حياتهم المليئة بالكآبة وعدم الأعتراف. لقد شدتني أعمال سوتين كثيراً منذ بداياتي، أعماله التي فيها تعبيرية ذات ملامح شخصية فريدة بعجائنها السميكة وأنكسارات خطوطها حيث أثّرت تلك الأعمال على فنانين كبار وعباقرة فيما بعد مثل جاكسون بولوك ووليم دي كوننغ وفرانسيس بيكون وغيرهم الكثيرون.
قرر سوتين في بداياته أن يدرس الرسم في فيلنيوس بعد أن ساعده والده الذي كان يعمل روافاً للملابس بمبلغ الدراسة، ومكث هناك ثلاث سنوات حتى جاءت الخطوة الحاسمة في حياته سنة 1913 وهي السفر الى باريس عاصمة الفن والثقافة في العالم، وهناك تعرف على بعض الرسامين الذين جاءوا الى باريس لتحقيق أحلامهم الفنية مثل شاغال ولبشتز ومودلياني الذي ربطته به صداقة عميقة وكبيرة حتى أن مودلياني قد خلَّد سوتين بمجموعة من البورتريهات التي عبرّت عن شخصيته المضطربة والغريبة، وقد ساعدت هذه البورتريهات مؤرخي الفن وكاتبي سيرة الفنان لمعرفة أسرار شخصيته، وأحد هذه البورتريهات هي اللوحة التي يظهر فيها سوتين جالساً وتنساب خصلات شعره على جبينه دون أكتراث بينما تختفي أحدى ياقات قميصة تحت سترته وتظهر الأخرى بوضوح وهذا ما يشير الى أن الفنان كان لا يهتم كثيراً بمظهره الخارجي الذي يطغي عليه العبث.
في باريس خطا بخطواته مباشرة الى مشغل الفنان فرناند كورمون لأخذ دروس أضافية في الرسم كما يفعل شباب الفنانين آنذاك ، لكنه بسبب شخصيته الصعبة ومزاجه العنيف المليء بالسخرية لم يستطع إكمال الدروس، هو الذي كان جامحاً ولا تحدَّه حدود. ربما لهذاالسبب أيضاً أتجه الى اللوفر لينهل من الأساتذة أمثال شاردان وكوربيه وريمبرانت، وقد أنجذب بقوة نحو هذا الأخير الذي اصبح ملهماً له في استخدام الألوان الكثيفة، وقد وصل شغفه بريمبرانت حدَّ أن سافر الى أمستردام ليطلع عن قرب على لوحة "العروس اليهودية" في متحف رايك ميوزيام والتي تظهر فيها مهارة ريمبرانت وكثافة ألوانه، حتى قال أحد اصدقائه بأنه قد تسلل الى ريمبرانت بنوع من الأعجاب والخوف معاً، وهذا ما أكده هو بعد سنوات أيضاً حين رسم سلسلة من اللوحات مستوحاة من لوحة ريمبرانت ( القِصابة ).
مرَّ سوتين سنة 1920 بنوبة من الحزن والكآبة بسبب موت صديقه المقرب مودلياني وبدأ برسم لوحات مليئة بالحزن والتراجيديا، وقد قارن بعض النقاد هذه الأعمال بأعمال الفترة الزرقاء لبيكاسو ووضعوها بخط موازٍ لها. أستمر هذا الرسام الغريب والعنيد برسم لوحاته التي تشع دراما وقوة تعبيرية، وكان يبيعها مقابل 30 فرنكاً وهو يعاني في سبيل الحصول على الطعام أو الشراب، لكن شيئاً فشيئاً أصبحت باريس تعرفه وتعرف أعماله التي أصبحت اسعارها 470 فرنكاً للقماشة الواحدة وهذا شيء كبير في ذلك الوقت لفنان بوهيمي مثله، ورغم أن النقود ملأت جيوبه الفارغة لكن معدته الفارغة أيضاً من الطعام بدا عليها تأثير الكحول الرخيصة التي كان يحتسيها. كان التحول الكبير في حياته حين أشترى المليونير الأمريكي ألبرت بارنس 52 لوحة من لوحاته وأخذها معه الى أمريكا ، وهذه الأعمال أثرت تأثيراً كبيراً ومباشراً على التعبيرية التجريدية ومدرسة نيويورك .
توفي هذا الفنان الرائع في باريس بسبب القرحة وتمزق في المعدة، ولم يكن في جنازته أحد سوى أربعة أشخاص ظهروا من كنيسة مونتبارناس، أنهم حبيبته ماري كارده وبيكاسو وماكس جاكوب وجان كوكتو، هؤلاء الذين عرفهم وعرفوه جيداً، فتحوا باب الكنيسة وخطوا خطوات بطيئة تحت شمس باريس وهم يلوحون لنعشه ويودعون روحه المبدعة.
الرسام الحزين سوتين
[post-views]
نشر في: 17 أكتوبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...