ثمّة نظريات معرفية حديثة تعتقد "بوحدة المعرفة"، أي إن المعرفة أصلٌ واحدٌ متجانسٌ إنطلقت منها العلوم المختلفة كلها. وعليه، تبقى دراسة أي علم بصورة منفصلة مسألة ناقصة ما لم تُصاحَب بعلوم اخرى مُكمِّلة.فتح هذا الاعتقاد الباب واسعاً أمام علوم معينة أن تس
ثمّة نظريات معرفية حديثة تعتقد "بوحدة المعرفة"، أي إن المعرفة أصلٌ واحدٌ متجانسٌ إنطلقت منها العلوم المختلفة كلها. وعليه، تبقى دراسة أي علم بصورة منفصلة مسألة ناقصة ما لم تُصاحَب بعلوم اخرى مُكمِّلة.
فتح هذا الاعتقاد الباب واسعاً أمام علوم معينة أن تستعير افكاراً من علوم اخرى، فصارت مثلاًنظريات علم النفس أجوبة مهمة على سلوكيات مجتمعية معينة تناولها علم الاجتماع، فيما "سرقت" الانثروبولوجيا نظريات قيّمة من الفلسفة.
العلوم متداخلة فيما بينها واستعارة الافكار والنظريات من واحدة الى اخرى ضمانة جيدة لفهم أعمق للظاهرة المُراد بحثها. مع هذا، سوء الاستعارة قد يضر كثيراً اذا لم يأخذ العلم المُستعير فَرَادَة الفكرةالمُستعارة وسياقها الفني او العلمي في نظر الاعتبار.
قصيدة "الكولاج" مثال على الاستعارات السيئة غير الموفقة لأنها استعارت تقنية الكولاج من الفن التشكيلي ووظّفته في بناء القصيدة الحديثة بصورة أخلَّت ببنائها الجمالي.
المعلوم إن تقنية الكولاج تقنية فنية برع بها الرسام الاسباني الشهير بابلو بيكاسو. يستند فن الكولاج على قص أشياء موجودة سلفاً، سواء كانت صوراً ام عناوين صحف ام اشياء معدنية، ولَصْقِها على قماشة اللوحة بطريقة يظهر فيها العمل الفني خليطاً من رسومات وملصقات معاً. هي تطعيم للوحة الفنية بأشياء جاهزة حين يكون الرسم غير قادر علىخلق فضاء جمالي بمفرده. هكذا يعتقد أصحاب هذا الستايل الفني.
بطريقة تشبه فن الكولاج، كتبالشاعران، الفرنسي غيوم ابولونير والامريكي الانكليزي تي أس أليوت، بعض قصائدهما، حيث إستخدم الإثنان ألفاظاً عامّية ومصطلحات شعبية غير فصيحة وادخلاها داخل بعض قصائدهما الجادّة لتصبح تلك القصائد شكلاً فنياًمعروفاًسار عليه فيما بعد عددٌ آخر من شعراء الحداثة.
يرى النقاد إن استعمال مفردات دارجة في قصيدة فصيحة قد أخلَّ ببنائها الجمالي وجعلها ممارسة عشوائية، الجميع قادرٌ عليها.قصائد "الكولاج"، تلك التي كُتِبَت بطريقة كولاجية دَمَجَت المفردة الدارجة مع اللغة الرصينة، تهديدٌ للشعر بوصفه منتجاً إحترافياً صَنَعَتها مهارة اللغوي المُتَمَكّن. فأيّ مهارة وأي صنعة في الشعر أبقاها هكذا نوعٌ من القصائد!
كانت تقنية الكولاج فناً مؤثراً داخل وسطها التشكيلي، لكنها سرعان ما دمّرت بنية الشعر الحديث حين إستعارها شعراء قادمون من حقل ابداعي آخر. لقد إستعاروا "فكرةً"دون النظر لسياقها واشتراطاتها فصارت فكرةً مُشوَّهة لا تحمل قيماً إبداعية مثلما كانت في حقلها الاصلي.
لم يقتصر هكذا نوع من الشعر على الشاعرَين المذكورَين، بل زَحَفَ مفهوم "الكولاج" على قصائد بعض شعراء العراق، خصوصاً في أيامنا هذه.
صرنا نرى قصائد فصيحة حَشَرَت بين أسطرها مفردات دارجة في محاولة لصنع نسق شعري جديد لا يعرفه الشعر العراقي سابقاً.
تلك إستعارةٌ بائسة، لا نتمنّى للشعر العراقي أن يتورّط بها.