تستهدف الفنانة هناء مال الله في تجربتها الطويلة العودة بالرسم الى ينابيعه الاولى ، الى اقل قدر ممكن من الخطوط والالوان ، وهي في الواقع فنانة معاصرة ، بوعي حديث ، درست الرسم في أكاديميات (حديثة) وتوفرت على عدد وخامات حديثة صنعتها التكنولوجيا المتقدمة.
تستهدف الفنانة هناء مال الله في تجربتها الطويلة العودة بالرسم الى ينابيعه الاولى ، الى اقل قدر ممكن من الخطوط والالوان ، وهي في الواقع فنانة معاصرة ، بوعي حديث ، درست الرسم في أكاديميات (حديثة) وتوفرت على عدد وخامات حديثة صنعتها التكنولوجيا المتقدمة. التي لا تتيح كل ذلك الصفاء ، الصفاء الذى رآه إقليدس عاريا .
من حق هذه الفنانة التأملية ، التي تقترح منذ عقود، مذهبا جماليا شخصيا جدا ، ان تجرب في الاقتصاد اللوني والخطي ، وان تشذب العالم من التراكم ، وصولا الى عوالمها البعيدة الصافية .
كانت في بغداد ، دائمة التردد على المتحف الوطني ، عندما كانت ابوابه مفتوحة ، أطالت التامل هناك، واقترحت العزلة بوصفها رحلة إنقاذية للذات من الإفراط الاجتماعي . خطر لها ان تستقر هناك ، ان تبدأ من هناك ، من تلك اللحظة التي قرر فيها إنسان مابين النهرين ان يصنع الجمال ايضا .
لكن العزلة الإرادية ليس من مهامها المساعدة على انتاج فن خاص ، على الرغم من انها قد تفضي الى نظرية خاصة وعميقة عن جوهر الفن .
لم يكن احد اهم أساتذتها وربما الاستاذ الوحيد ، منظرا جماليا كما ينظر اليه في الغالب ، شاكر حسن ال سعيد كان متصوفا حداثويا ، غربي الثقافة ، بمعنى انه كان يعمل عمل الاركيولوجي في تحري ما تحت سطوح الأشياء ، وعمل الفيلسوف في انتاج المفاهيم ، وعمل المتصوف في حمل كل ذلك باتجاه السماء ، هو لم يتوقف عند مهمة (الجميل) في الوجود ، الرجل كان في مسعاه الشخصي مندفعا نحو الاستقرار الروحي في هالة الجليل ، ذلك السر الذي يطبع الوجود بالجمال وسواه على حد سواء .
من هنا ، لم تكن تلميذته هناء مال الله ، بصدد بناء نظرية في الجمال ، بل عملت على تقديم تأملات في مجمل معنى الوجود عبر رؤيتها الجمالية ، قدمتها في طريق رحلتها النظرية ، ربما تأثر فنها بهذا القدر او ذاك بتلك ( الشطحات ) المعرفية التي يصادفها المتأمل في عزلته . او تلك التي اخذتها عن الاستاذ .
وبالقدر الذي كانه شاكر حسن ال سعيد درسا مهما في قصة الرسم العراقي ، ستكون هناء مال الله كذلك ، ليس عبر مغامرات تقديم النتاج الفني المدوي و الصادم ، ولكن في معنى تصاهر اعمال الفنان مع نظريته . ذلك الانسجام الخفي بين تطلعات العقل و تاريخ الروح .
في أعمالها الاخيرة ، في معرضها الأخير ، الذي قدمته في ( بارك غاليري ) في لندن ، هناك هذا الاختزال والفقر المقصود في الاعمال المعروضة ، شحوب في تنوع المواضيع ( ليس المضامين ) وطرق معالجتها وفقر دم لوني متعمد . مع اقتصاد واضح في الخامات .مع وجود بعض الاعمال ( في الحقيقة انا شاهدت صور عملين وربما ثلاثة ) يمكن ان نسحبها الى الفن التركيبي بتردد ، ولكن (هدهد ) هناء مال الله ، كان بطل حكايتها و طائر عزلتها الكئيب الذي يشي باليأس والوحشة ، وبالرغم من وجود الغصون الخضر المورقة ، فإن ذاك الطائر وهذه الغصون لسوء الحظ ، لا يحملان الى عمق محيط روحها المضطربة اي رسالة سلام واخبار سارة من اليابسة التي هي المستقبل ربما. وتحديدا مستقبل بلدها ، الذي تيبَّست أغصانه في سجن تقول لنا الالوان ، هو ذلك الخراب الذي حل به بعد الاحتلال الأميركي ، حيث تعلق القفص في نسيج الطائر نفسه وأصبح قطعة منه ، والموت هو الهدنة الوحيدة لهذا الاشتباك . الموت الذي جاء على هيئة جمجمة تعلوها كلمة (truce) هدنة تسيل دما اسود هو في الواقع ليس بدخيل على سطح اللوحة وإنما جزء من تكوينها ،
الحق ان تجربة هناء مال الله الجديدة ، هي درس في الاختزال ، ودرس في تكثيف الشفرة ، كما انها درس في معالجة الفراغ الذي لم يعد يعمل هنا كخلفية للأشكال وإنما هو الشكل الاكثر حضورا ونصوعا وبلاغة ايضا .
هناء مال الله هنا ، وكما في سابق عهدها ، اختارت طريقها الموحشة الخاصة ، بعيدا عن الحضور الإعلامي في قلب التجربة الفنية وضجيجها ، بعيدا عن نتاجاتها وتراكمها وخلاصاتها .
هي فنانة تتجاوز التاريخ في محاولة للاستقرار في كهفها الشخصي ، تحفر باناة وأناقة على صخور عزلتها خطوطا (شرقية) تنتمي الى الفن الآسيوي القديم ، وذلك يجري في الألفية الثالثة التي تعيش مطلعها في واحدة من اهم عواصم العالم وحواضره الفنية . بعد ان غادرت العراق حيث متحف ذكرياتها ومسقط راس أعمالها الاولى ، منذ كانت رسامة الأطفال الأنيقة في توزيع الخطوط على الفراغات البيض.
هناء مال الله بسلاحها النظري ، وتمرينها التأملي ، سوف لا تتقبل منا اي ضجيج نفتعله حول أعمالها ، هي مكتفية باقل حضور وأعظم غياب ، راهبة متعففة لا يفتنها اي ضوء مخادع .
تلميذة فريدة لأستاذ فريد في مدرسة شاء لها القدر ان تكون فريدة هي الأخرى . مدرسة بأستاذ واحد ومقعد واحد لطالبة مجتهدة.
هناء مال الله تخلق في سماء الفن لوحدها ، هناك طائر اسود بعيد يفرش جناحيه المتعبتين في الأفق ، بعيد عن أشعة الشمس المخادعة . ذلك هو طائرها.