قبل معرفة نتائج أول انتخابات ديمقراطية جرت أمس في تونس مدشنة رسمياً وفعلياً العهد الجديد، يصح القول إنها جرت وسط انقسام حاد أخذ صفة الثنائية بين حركة النهضة الإخوانية وبين نداء تونس العلمانية، وهي أتت بعد أربعة أعوام من الحكم الانتقالي، جرى خلالها التوافق على دستور جديد، يعطي الحزب أو الائتلاف الفائز بأغلبية برلمانية حق تشكيل الحكومة، ويترك لرئيس الجمهورية حرية اختيار شخص رئيس الوزراء إن لم تكن هناك جهة تملك الأغلبية، وهذا النص الدستوري سيشكل معضلة في ظل الواقع الراهن، حيث التنافس على أشده بين الإسلام السياسي ممثلا بحزب النهضة، والعلماني الذي يضم بعض أقطاب النظام السابق، وبين القطبين تتنافس قوى المعارضة التقليدية، التي ساهمت جذرياً في إطاحة بن علي، لكنها لم تتفق على برنامج يؤهلها لوضع بصمتها على هذه المرحلة لأنها لم تعتبر بنتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ولم تعي تماماً حساسية المرحلة، ما يبقيها على الهامش، وإن اعتقد كل زعيم حزب فيها أنه الأحق بقيادة البلاد.
يبدو أن التوافقات الوطنية ستكون عنوان المرحلة المقبلة، بشّر بذلك زعيم النهضة الإخواني راشد الغنوشي، فأعلن أن هدف حركته تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة، وأنه لا مانع لديه من مشاركة رموز من النظام السابق، ما يدل على براغماتية سياسية كانت سمة حركته خلال الأعوام الثلاثة الماضية، كانت نتيجتها إرباك خصومها فعلياً، وتوسيع قاعدتها الشعبية، إضافة إلى أن الدستور الجديد يلحظ العلاقة بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، ويحدد صلاحيات كل منها، في خطوة ابتعدت بالبلاد عن النظام السياسي الرئاسي الذي ظل سائداً منذ الاستقلال، وسمح لبورقيبه وبن علي من بعده بالتفرد بالحكم، وتحويله إلى شبه دكتاتوري، وإن حافظ على مظاهر من قشور الديمقراطية.
انتقلت تونس أمس من الاستبداد للديموقراطية، لكن ذلك لايعني الخروج من المرحلة الانتقالية بكل تجاذباتها السياسية، ومعارك اختبار القوة بين أطياف الحركة السياسية، عبر صناديق الاقتراع، لكن المهم أن الدولة التي فجرت "الربيع العربي"، فتحول إلى خريف حيثما حل، استطاعت العبور إلى مرحلة الديمقراطية، رغم أنها تقع بين ناري أسلمتها والإرهاب، وهنا يحضر الدور القطري المشبوه حيث تدعم الدوحة "نهضة الغنوشي" مثلما تدعم قوى الإرهاب المنتشرة في ليبيا المجاورة، وتسعى إلى خطف التجربة التونسية، دون التعلم من التجربة المصرية التي فشلت بجدارة ، ويقود ذلك كله إلى بروز أهمية ومركزية انتخابات أمس، ذلك أنها تؤكد سلمية التوجه إلى النظم الديمقراطية، في عالم عربي تسعى قواه الرجعية لوأد أي تجربة ديمقراطية، نتمنى أن تكون تونس عنوانها.
تعثرت التجربة التونسية، حتى أن البعض تحسّر على أيام بن علي، وأعلن رفضه للديمقراطية القادمة بكل فوضى المرحلة الانتقالية، وهي لم تسلم من تدخلات من يرون في الربيع العربي فتنة ستصل إلى قصورهم، غير أن نجاحها اليوم يؤكد أن ما شهدته قبل أربعة أعوام كان قدراً لا مفر منه ولم يكن حدثاً عارضاً يرتبط بانتحار شاب حرقاً أمام أعين الناس مثلما يؤكد أن الاحتكام للديموقراطية هو الواقي من الوقوع في فتنة الاستقطاب والكراهية، وصولاً إلى حرب أهلية تستعر اليوم في سوريا واليمن، غير أن الأكثر أهمية ان تظل نتائج الانتخابات محترمة من الأطراف كافة، وأن تؤمن هذه الأطراف بالتداول السلمي للسلطة، والاحتكام لصناديق الاقتراع النزيهة، ورفض الانجرار وراء حركات الإرهاب الإسلاموي المستبد، بغض النظر عن مسمياتها وعناوينها، وأن يهتف جميع التوانسة بنشيدهم الوطني "نموت نموت ويحيا الوطن"
تونس.. أول الديمقراطية
[post-views]
نشر في: 26 أكتوبر, 2014: 09:01 م