لم يكن كامل الجادرجي مجرّد سيرة حافلة بالمواقف الوطنية ، بل كتاباً غنياً لحقبة من الزمن الجميل . كان الجادرجي يريد دولة تقوم على العدل الاجتماعي ، ونظام سياسي يحفظ كرامة الإنسان ، كان ذلك جيل البناء والاجتهاد ونقاء الضمير، جيل آمن بأن العراق لوحة كريستال جميلة، إذا فقد جزءاً منه فقد مبرر وجوده وتناثر.
عشق الجادرجي كتابات روسو وفولتير واقترب من ماركس في تأكيده مبدأ توزيع الثروات ، وآمن منذ اليوم الأول لصدور صحيفته الأهالي بأن صلاح الأوطان من صلاح أبنائه.
ونحن نقرأ سيرة كامل الجادرجي اليوم نجد من الصعب أن نحدد إذا كان الجادرجي النائب يتصرف داخل البرلمان باعتباره ينتمي إلى طائفة معينة أم إلى حزب بعينه.. يبدو ذلك مستحيلا، بل من المحظورات أن تجد رجلا بحجم كامل الجادرجي يتحدث بالطائفة والعشيرة والمكوّن.. لا يمكن ان يحسب السياسي على طائفته ، إلا في زمن أمراء الطوائف ومراهقي السياسة.. زمن أصبح فيه كل شيء سهلا، المال العام أصبح خاصا، والمنصب لا يسعى إليه من خلال الاجتهاد والعمل والخبرة، بل الوسيلة إليه هي التزوير والانتهازية والمحسوبية. ، هل شاهدتم السجال " اللاوطني " بين الزعيمة حنان الفتلاوي و" الهمام " وطه اللهيبي ؟ لا تعليق على هذا السجال سوى تذكّر ابن نصر الرياشي :
ثقيلان لم يعرفا خفَّة فهذا الزكام وهذا الرمدْ .
ينتمي كامل الجادرجي إلى صف طويل من الرجال كانوا يمثلون العراق الحقيقي، أدركوا معنى أنهم يعيشون في بلد متنوع فسعوا إلى بنائه بالجد والعمل والحلم.. أقاموا الجامعات والمتاحف والمعامل، وبسبب من عقول أمثاله ووطنية رجال مثل ساسون حسقيل ومحمد رضا الشبيبي وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون والزهاوي ومحمد الصدر والكرملي وسواهم، بدأ العراق يأخذ مكانته واستحقاقه، لم يولد ضعيفا، بل اخذ يتقدم الدول الأخرى ، شريكا وفاعلا ، وليس تابعا لإحدى دول الجوار .
هل تعرفون من كان يقرأ مقالات كامل الجادرجي ويقوّمها ،اثنان فقط الشيعي محمد رضا الشبيبي ، والمسيحي الأب الكرملي .
ما هذه البلاد التي يقول فيها نواب إن داعش أو الميليشيات أفضل من الجيش الوطني ؟! ما هذه البلاد التي تدير ظهرها للجواهري وتسمّي أحد شوارعها باسم نائب في البرلمان ؟ كان العراق في "عصرالجادرجي " عكس هذا الزمن ، المليء بوجوه الخراب والفتنة وشركاء " الكعكة "
أتذكّر سيرة الجادرجي الأب كلما عدت إلى مؤلفات الابن الأكبر رفعت الجادرجي ، وحين أشاهد نصير الجادرجي يتصفح بسطيات المتنبي ترافقه ابتسامة تشعّ خجلا وتواضعا ومحبة.
أنا أعتذر، لأنّ البعض يسألني دوماً، أليس لديك سوى الحديث عن محمد رضا الشبيبي والكرملي والرصافي ؟ لا ذنب لي أيها السادة ، فلست أنا من صنع نزاهة هؤلاء الرجال ، فأنا مجرّد كاتب يسطّر المأساة ويبحث عن نافذة للأمل ، وكانت واحدة منها ما قام به نصير الجادرجي قبل أيام حين أعاد لوزارة الثقافة كنزا فنيا من تراث هذه البلاد التي نُهبت ، رافضا ان يعتبر هذه الأعمال الفنية هدية يقدمها للمتحف العراقي ، فهو يصرّ على انه :" قدم هذه اللوحات كواجب وطني."
هذا هو وجه بغداد الحقيقي ، وجه باسم ، حلو الصوت والمعشر ، أكثر اجتهادا ومحبة لروح المواطنة ، لا حديث عن الطائفة والمذهب ، وانما سجال عن عراقة العراق ، ولهذا يظل نصير الجادرجي نموذجا غريبا في عراق اليوم ، فمن يريد عراقياً لا يتحدث بالمظلومية أو الإقصاء ، ولا علاقة له بالتوازن الطائفي ، عراقياً لا يقبل القسمة على المذاهب والعشائر ، ويرفض الاشتراك في سباق المنفعة والانتهازية ؟
شكراً نصير الجادرجي لأنك أثبتّ لنا أنّ المكان والمكانة فقط لسياسيين يتبارون في حبّ هذه البلاد .
العراقي نصير الجادرجي
[post-views]
نشر في: 31 أكتوبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
احمد حسن عبدالله
لايمكن ابدا المقارنة بين العهد الملكي والعهد الجمهوري لان هناك فرق شاسع ما بين الارض والسماء العراق انتهى بانتهاء الملكية وشكرا ---