على صوت بلبل غريب، يقف على غصن حائر في شجرة البرهام الكبيرة، تصحو وخيوط الشمس لما تكتمل بعد، وقبل أن تضع إبريق الشاي على النار الزرقاء تروح، تلقي نظرة اولى على الماء الذي يدفع به المدُّ عالياً، فيغطي مراقي الشِّريعة الدنيا، وحتى لا تقولُ عن نفسك شخت وخرفت، تستل من عذق أصفر مُتدلٍ ما تنوشه يدك من رطب سيتْمِرُ بعد أسبوع، فالشمس تعجّل من مسيرتها نحوك، تدخل فسحة بستانك محرقة غاضبة، قادرة مستقدرة، هي أسطوانة تعاد كل يوم، لكنك وقبل ان تحمل فضْلة طعام المساء لرهط الإوز والدجاج في الزريبة الوسيعة تقف، تتفقد كعادتك، كل صباح ما اخضرَّ من الفسائل، هو دأب العاطلين عن التفكير بالموت، ودأب محبّي الحياة .أنت تطاعن بسيف من آمال عراض جيوش السام والملل والنهايات البليدة.
ولأنك على مبْعدة من صخب قاعات كثيرة، لأنك لا تقوى على حضور يتقضّى جلّه في مجاملات لا معنى لها، ولأنك لا تكتب إلا ضميرَك وعفافك فقد شحَّ زوّارك، اتخذ محبّوك السابقين أخْدَانٍ جدداً لهم، كانوا أشدَّ بهجةً لديك، لكنْ، لا يضيرك من ذلك شيءٌ، ها أنت تحمل خطاك إلى النهر، كعادتك كل يوم، خيوطاً وقصباً وصناراتٍ، وعمّا قريب ستعلق سمكة وتصطف أخرى، ويطير طائر أزرق من حولك، ويفيض بستان بماء رقراقٍ كثير، وتحطُّ قُمْرية، تحنو على صغار لها بين مرتفع من الظلال، هو عالمك الذي ألِفتَ، واستبدلت به الكثير منهم. لا لست ممن يتضور قربا لهم، لست من تحمله أقدامُه لرذيلة عند أحد، فكن الجبل الذي يؤخذ العقيقُ إليه، كن القصب الذي ينبلج عنه فجر المسرات .
تنكمش قطعة الجسد فتصير ثوباً قصيراً، وتتضاءل مباهج الروح، فتمسي عصفوراً بحجم قبضة الوليد، وبين اغماضة عين وانتباهتها تتشكل صورة الأمل، وتتفلت من حجر اليأس براعمُ كثيرة، فلا تأخذنَّ من يابس المعاني نهايات ليومك ، ولا تظننَّ بقبضة يدك إلا خيراً، حتى وإن لم تطاوعك أصابعُك، قف ممدود الذراع، مبسوط الهمة، وأصرخ بالأغصان تأتيك طوعا وكرها، أنت غارسها، وأنت من أمسك ويمسك بالظلال لها، ووحدك من ظلَّ ممعناً، صاهلا ًيحدّث العابرين عن آماد الليل والنهار هنا، وحدك من ظل صامتاً، متأملاً المراكب بأشرعتها البيض وهي تغدو محملة بالأقفاص والصناديق والزنابيل مملوءة سمكاً ورطباً وقثاءً ويقطيناً. لا ليس الرفض قدماً تضعها على جادة وتسير، ليس القبول يداً ترفعها مودعاً وتختفي، أنت اكثر من ذلك بكثير، أبعد من ذيّاكَ وأنأى، هذي ظلالك تملأ الأرض، فخذ ما استعصى من الآمال، ما غلظ من الحبال واصعد سماءك التي تنزلتك شاعراً، اصعد، اصعد، اصعد. فأنت الوحيد القادر.
أمسِ، وبينَ انا أبحث في التراب عن معنى جزّ ترادفُ المعاني ناصيته، قرأتُ الشنفرى، الشاعر، في لاميتهِ التي يقول مبغضو خلف الأحمر، راوية الشعر البصري الأعلم، بانه كتبها ونحلها للشنفرى، ووقفت على بيته الأشهر:( وإني كفاني فَقْدُ من ليسَ جازياً ------ بِحُسنى ، ولا في قُربِه مُتَعَلَّلُ) . وهو لعمري خلاصة ما بعدها من خلاصة، حتى ليشعر المرءُ، الشاعرُ بان الفقدَ لا يعني انتفاءَ الانتفاع، ومحولَ الأرض، ذلك لأن البعض ممن كنّا معهم صفوةً وأصدقاءَ لم يكملوا معنا غربة الطريق، سقطوا في اول منعطف، حيث لا نسمع اليوم في تذكرهم إلا وقع أقدامهم وهي تخب الظلام وتختفي. وربّك يا شنفرى، لأِن كنت انت أو جاء بك خلف الأحمر فقد كنت واحداً منصفاً شاعراً. وقفت على خرائب نفوس كثيرة ما أطهرنا دونها.
حياة رتيبة يائسة
[post-views]
نشر في: 8 نوفمبر, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
محمد توفيق
فتحنا أعيننا في طفولتناالغضة في البصرة على الماء والنخل والشوايخ كمفردات للحياة والبيئة البصرية التي كنا ندرس في بساتينهاونلوذ بفيئ نخيلها الوارف من حر الصيف، وأن جعنا ظهراً فما سقط من رطبها كان غذاءً لنا أثناء التحضير المنهك للبكالوريا فنأكله مع غباره