4
هاجس المرء أن يحيا و يكون كما يتمنى ، هاجسي أن أتمّ كتابي الأخير وحينها قد أستسلم للرحيل ، تحاصرني وجوه الموت المموهة بأقنعة أليفة فأهمس : أيها الفناء تريث قليلا ودعني أدوّن ما لم أٌقـلْهُ بعد ففي الروح ألف صوت أخرسته المخاوف وفي القلب ألف سرٍ عن الآمال العظيمة والحب والخيبة والمخاوف التي لاتعرفها سوى حدوس النساء.
تنهمر عليّ مقاطع من قصيدة "سيأتيكم زمان " لـ"ممدوح عدوان" :
"ها هو الموت يأتي ، خطاهُ على الأرصفة ،
وجهه سيفاجئ في العَطَفاتِ وقد يشرئبّ من الأرغفة ،
ها هو الموت يأتي ...تنفسه عند بابي ،وفوق وجوه النيامْ
ها هو الموتُ يأتي ، انهضوا أيها الميتونْ جاء موتٌ جديدْ
نابع بين حبل الوريد وبين الجبينْ...
ينسل الموت افعوانا ويلامس أرواحنا كحنان امرأة لعوب ويغازلنا كأنه الخلاص وأحيانا يكون هو الخلاص ، سأخادعه وأمشي في الممرات ساعة وأكتب ساعة أخرى، أعلم أن كل خطوة نقوم بها هي كناية عن رحلة في الزمن، سأحطم ساعتي والمنبه كما فعلت بطلة قصتي"الساعات" في كتابي "إذا كنت تحب" لأطلق فوضى الزمان ،سأدع العاصفة لتدوّم حولي وتوقظ الحمائم الغافية في شجر التين وأحرر النساء والرجال المأسورين في الكتب العتيقة والأساطير ليضج المكان بالآهات والقبلات والموسيقى، فلعل الموت يخطئ مواقيته وحياتنا.
الساعة الخامسة صباحا
أفيق على صحراء الدم ، وأنا رهينة إصراري على البقاء في انتظار ميتة شنيعة كجميع الضحايا من الأقارب والمعارف، يلومني الأبناء في المكالمات المتواصلة و يحرضونني : "أخرجي من بغداد وتعالي إلينا ،علام بقاؤك هاهنا ؟" وأجيبهم "دعوني أشهد على ما يجري وأدون شهادتي لزمن قادم."
يضحكون من بلاهة إجابتي وينذرونني:
- بقاؤك بين الأحياء محض مصادفة، وقد يكون موتك خبرا صغيرا في نهاية موجز أخبار كأيّةِ ضحيةٍ لا يُعتـدُ بشهادتها، هذا إذا صادف وعلمَ أحد بموتك بعد أن تتحلل جثتك في عتمة البيت.
-لاعليكم ، هي حياتي وأنا من يحق لي التصرف بها.
أحتفي بالفجر رغم كل شيء وأفتح الأبواب المحصنة بمشبكات حديدية، ينعشني المشهد الصباحي وشذا العشب ونهوض الحياة ،أروي الزهور وأقطف الأقحوان الأصفر وزهوراللاتينيا وأغدق رذاذ الماء على أشجار النارنج وعريشة الياسمين في معاندة نزقة - وربما بالغة السذاجة والغباء- للإرهابيين والفناء.
ثمار النارنج المتساقطة كشموس صغيرة تدعوني لأهيئ عصيرا شهيا ، ثمار ذهبية هي مصابيحنا العطِرة في حدائقنا البغدادية أطاحت بها عاصفة الليل على المرج ورسمت صورة بديعة لطبيعةٍ لاتخوننا ولا تأبه بالموت وتمنحنا عطاياها بلا منّة ، أجمع الثمار وأغلفة الرصاص التي تناثرت على الممرات إثر قتال الليل ومن يدي تفوح رائحتان : نارنج الحياة ورصاص الموت.
الساعة الثامنة
يهاتف أحدنا الآخر لنهدئ مخاوفنا من احتمالات الخطف أو القتل ، الساعة الثامنة صباحا موعد مكالمتي اليومية مع الصديقة الرسامة هناء مال الله، عقدنا اتفاقات على مواعيد لنتأكد من بقائنا أحياءً، امرأتان وحيدتان ،هي في منطقة السيدية الساخنة جنوب بغداد وأنا في العامرية الملتهبة بعنفها وحرائقها وهاهي هناء ترد وتبلغني "سأذهب إلى أكاديمية الفنون" ، هذا اتفاق ثانٍ بيننا نبلغ عن تحركاتنا فقد نتعرض للخطف أو القتل على الطرقات ، تقترح هناء أن نلتقي ظهرا لحضور معرض تشكيلي في غاليري "أثر" ، أعتذر فلدي ارتباطات عمل في المجلة ،أهتف لنفسي : ها قد كسبنا يوما جديدا لحياتنا.
يتبع
يخطئ الموت مواقيته والحياة مقاطع من كتاب "الحرب والمنفى"
[post-views]
نشر في: 15 نوفمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...