القسم الرابع في عام 1962 بدأت معرفتي الشخصيّة بعالم النفس الأمريكيّ ( ابراهام ماسلو Abraham Maslow )* الّذي يعدّ أوّل من شخّص في كتاباته ما بات يعرف اليوم ( تجارب الذروة Peak Experiences ) التي يمكن وصفها ببساطة بأنّها شعورٌ ببرهاتٍ من السعا
القسم الرابع
في عام 1962 بدأت معرفتي الشخصيّة بعالم النفس الأمريكيّ ( ابراهام ماسلو Abraham Maslow )* الّذي يعدّ أوّل من شخّص في كتاباته ما بات يعرف اليوم ( تجارب الذروة Peak Experiences ) التي يمكن وصفها ببساطة بأنّها شعورٌ ببرهاتٍ من السعادة الطافحة المتفجّرة ، و كانت إحدى الأمثلة المعياريّة لهذه التجارب الفريدة هي تلك التي كتب عنها ماسلو واصفاً حالة أحد طلّابه الجامعيّين من دارسي الجاز و الذي وجد نفسه صباح أحد الأيّام ممتلئاً بطاقة عجائبيّة متفجّرة و راح يعزف الجاز بطريقة مثاليّة تخلو من أيّة شائبةٍ في الأداء .
رأى ماسلو أنّ تجارب الذروة كانت تحدث بمحض الصدفة و ليس ثمّة من وسيلةٍ لحثّها إراديّاً ، و لم أكن أشاطره الرأي بعد أن شهدت أنّ كثرةً من هذه التجارب يمكن أن تحدث في مواقف متباينة : بعد جهدٍ طويلٍ متّصل ، أو بعد انزياح شدٍّ نفسيّ أو جسديّ مفاجئ عن كاهل المرء مع ما يعقب هذا الانزياح من دفق ِ راحة و استرخاء ، و لم أكن أنا نفسي استثناءً من هذه التجارب الذرويّة و أستطيع الزعم أنّ واحدةً منها على الأقلّ حدثت معي في منتصف الستّينات عندما كنت أقود سيّارتي عائداً أنا و عائلتي من إسكتلندا و كنّا قد انطلقنا من لانكشاير . ظننت في البدء أنّ رحلتنا ستمتدّ لمسافة حوالي مائة ميل ، و بعد أن أمضيتُ قرابة الساعة في قيادة السيّارة أدركت كم كنت مبالغاً في تخمين المسافة من موضع انطلاقنا حتّى بلوغنا الحدود الفاصلة بين إسكتلندا و إنكلترا إذ شاهدتُ علامةً تشيرُ إلى أنّ أمامنا قرابة عشرة أميالٍ لنبلغ الحدود الإنكليزيّة و هذا يعني أنّ ( ليدز ) صارت قريبة منّا ففكّرت حينها أن بإمكاننا زيارة صديقٍ قديمٍ لي يقيمُ هناك و ربّما قضاء الليلة بأكملها في منزله ، و أذكر كيف أنّ إدراكي بانّنا كنّا أقرب إلى الحدود الإنكليزيّة ممّا كنت أظنّ ملأني بغبطة عارمة لم أشهد مثيلاً لها من قبل و بخاصّة انّ ذلك الصباح كان رائعاً و مشمساً فرأيت مزاجي مشحوناً بطاقةٍ جيّاشة من التفاؤل الطاغي ، ثمّ تصاعد مزاجي التفاؤليّ مع رؤيتي للمرتفعات العظيمة في مقاطعة البحيرات المحاذية للحدود الاسكتلندية – الإنكليزيّة ماثلة في الأفق أمامي و لطالما كانت هذه المنطقة واحدة من أجمل المناطق و أحبّها عندي و أعرف تضاريسها الجغرافيّة بأفضل ما يمكن من الدقّة و التفصيل ، ثمّ اجتاحني إحساسٌ غريب فوجدتُني قادراً على رؤية ما يقع على الجانب الآخر من المرتفعات و لا أعني هنا أن المرتفعات صارت شفّافةً بطريقة مباشرة و حرفيّة و لكنّ ما أعنيه أنّني صرتُ كطائرٍ يمتلك القدرة على رؤية ما يقع على جانبَي تلك المرتفعات و هو يحلّق في الأقاصي العالية و امتدّ هذا الشعور المكثّف المقترن بالإدراك الفائق حوالي ساعة أو أكثر بقليل .
اكتشف ماسلو و بطريقة تدعو للدهشة أن طلبته الجامعيّين عندما كانوا يناقشون تجاربهم الذروية مع بعضهم كانت تجاربُ ذرويةٌ جديدة تنهال عليهم طوال الوقت و لم يكن ذلك بالأمر الذي يمكن إغفاله بالنسبة لأيّ عقل مدرّب و عين مستبصرة .
تعيش الكائنات البشريّة أيّامها الاعتياديّة و هي مقيّدة دوماً إلى نمطٍ من المحدوديّات الطبيعيّة و تستجيب هذه الكائنات تبعاً إلى ما يواجهها من التحدّيات و المشاكل اليوميّة و هذه الاستجابة المزمنة هي ذاتها ما يقيّد الإمكانات الهائلة للوعي البشري و آفاقه غير المستكشفة ، و ما يميّز الحديث المتواصل عن التجارب الذرويّة أنّه يتيح إمكانيّة اختبار كم نحن محظوظون في تجربة حالاتٍ لم يختبرها غيرنا و هذا ما يمنحنا سطوةً قويّة لتجاوز المقيّدات و المحدوديّات المفروضة على وعينا البشريّ : المسألة بالضبط كمن يدرك أنّه يمتلك مالاً في البنك أكثر بكثير ممّا كان يظنّ ، أو بالعودة إلى مثال تجربتي الذرويّة الأولى عندما أدركت أنّ الحدود الإنكليزيّة هي أقرب بكثير ممّا ظننت لحظة شروعي في القيادة و عندها توفّر لي المزيد من الطاقة الإيجابيّة التي بإمكانها أن تجترح بدورها تجارب ذروية جديدة .
حاجج ماسلو لاحقاً أنّ تجربتي الذرويّة عند قيادتي السيارة من إسكتلندا إلى إنكلترا كانت وَهْماً ناتجاً عن خطأ في احتساب المسافة و لم تكن أكثر من محض مصادفة حسب و حصل أن وافقته الرأي آنذاك و لكن كان ثمّة موقف آخر في كانون ثانٍ 1979 عندما انغمرت في تجربة ذروية و لكن بعد جهدٍ محسوب و مدبّر من قبلي و ليس بمحض الصدفة العابرة : كان عليّ يوم السبت 30 كانون أوّل 1978 أن أسافر إلى قرية تدعى ( شييبووش Sheepwash ) في مدينة ديفون الإنكليزيّة و إلقاء محاضرة هناك ، و كان الجوّ ممطراً عندما شرعت في رحلتي ، و بعد أن وصلت مدينة ( لونسيستون Launceston ) بدأ المطر يستحيل كرات ثلجيّة . وصلت مزرعة تدعى ( توتلاي بارتون Totleigh Barton ) متأخّراً بعد الظهر و حاضرتُ في مجموعة من الطلبة عن الشعر بعد أن تناولنا وجبة الغداء ، و عندما ذهبت تلك الليلة إلى الشاليه المخصّص لي كان الثلج قد تكوّم بهيئة طبقة سميكة و كان لايزال يهطل بشدّة و بدا واضحاً لي صباح اليوم التالي أن ليس بوسعي قيادة سيّارتي و العودة إلى منزلي لذا اتّصلتُ هاتفيّاً بزوجتي و أخبرتها أنّني قد أعْلـَق في القرية بسبب الثلج لبضعة أيّام قادمة ، و أذكر ذلك اليوم جيّداً لأنّه تصادف مع ليلة رأس السنة و كان يوماً شديد البرودة حتّى أنً المياه تجمّدت في صنابير المياه . ركبتُ سيّارتي صباح اليوم التالي - المصادف بداية السنة الجديدة 1979 - و صعدتُ المنحدر المتصل بالطريق العام و مضيت في طريقي عائداً إلى المنزل . كانت الطرقات ضيّقة للغاية في المدينة و كان على كلّ من جانبي الطريق خندق لتجميع مياه الأمطار و تيقّنتُ منذ البدء أنني إذا انزلقت بفعل الجليد إلى أحد الخندقين الجانبيين فسأعلق حينها في ورطة كبيرة و لن يكون بوسعي الخروج إلّا إذا توفّرت لي القدرة على الاتّصال بخدمة الإنقاذ التي قد تتأخّر كثيراً في تلك الأجواء الصقيعيّة القاسية ، و لمّا كان كلّ شيء غارقاً في الجليد فلم أكن قادراً علي تمييز الحدّ الفاصل بين الطريق و الخندق الجانبي المحاذي له من كلا جانبيه و هكذا جلست خلف مقود السيّارة في سكينة تامة و رحت أقود السيّارة واضعاً جهاز تبديل السرع الميكانيكي على النمرة الثانية مكتفياً بالتحديق في زجاج السيارة الأمامي في تركيز تامّ ، و قد استغرق الأمر أكثر من ساعتين من القيادة للوصول إلى طريق اكستر العام حيث كان الجليد هناك قد استحال طيناً ملوّثاً بالأوساخ و عندها صار بإمكاني الاسترخاء قليلاً بعد زوال خطر انزلاق السيارة المفاجئ عنّي و هنا اكتشفت أمراً باعثاً على أشدّ حالات الدهشة : إنّ ساعتين من التركيز المحموم على الطريق خشية الانزلاق و الوقوع في الخندق الجانبي استحثّ فيّ حالة من الوعي المفارق للوعي الاعتياديّ و كان كلّ شيء يبدو لي مثيراً و باعثاً على الغبطة بطريقة لم أعهدها في الأحوال الاعتياديّة من قبلُ حتّى أنّ الأكواخ التي كنت أراها على جانبي الطريق بدت لي أماكن مدهشة للعيش و كم كنت راغباً في التوقّف عند كلّ كوخ منها و معاينته بتدقيق عظيم !! . دامت حالة الوعي المكثّف هذه معي طوال قيادتي نحو منزلنا و عندما اقتربت من المنزل وجدت الكهرباء مقطوعة عن المنزل و كانت زوجتي واقفة في الفناء أمام المنزل و هي تحمل مصباحاً يدويّاً تضيئُ به طريق تسعةٍ من الجراء الصغيرة التي أطلقتها لتكون دليلاً لي عند اقترابي من المنزل .
أثبتت تجربتي الذرويّة هذه لي بصورة بعيدة عن أيّ شكّ أنّ ماسلو كان مخطئاً في تصوّراته و أنّ حالات الوعي العميق والمفارق للوعي الاعتيادي والمقترن بالغبطة العارمة - يمكن حثُّها و تخليقها بواسطة التركيز الكامل و الشامل ثمّ اكتشفت بعدها التكنيك الأساسيّ القادر على حثّ التجربة الذرويّة : عندما نكونُ في حالة ضجرٍ فإنّنا نسمح لطاقتنا الحيويّة الداخليّة أن تتسرّب خارجنا و عندها يبدو العالم لنا بغتة مكاناً كئيباً و مضجراً إلى أبعد الحدود المتصوّرة و كأنّ الأمر يتبع القاعدة التالية : عندما تكون حماستُنا الداخليّة واطئة فإنّ كلّ شيء خارجنا يبدو مضجراً ، و من جهة أخرى عندما نكون في حالة انتظار أمرٍ أو شيء يجلب لنا السعادة و يفجّر حماستنا الداخليّة - حتّى لو كان أمراً ضئيلاً مثل تناول وجبة عشاء جيدة – فإنً أمراً ما بداخلنا سيعمل على منع تسريب طاقتنا الداخليّة نحو الخارج و عندها يبدو العالم مكاناً مشرقاً و مفعماً بالحياة ، و بالاستناد إلى هذه الفكرة يمكن المضيّ في ممارسة حيلة صغيرة باستطاعتها أن تستحثّ في داخلنا حالة من الاستيعاب الممتع - عبر استخدام ماكنة الخيال الجبّارة - لحالة الانتشاء الناجم عن الحرية الداخليّة التي تقود إلى الحفاظ على طاقة حماستنا الداخليّة و منعها من التسلّل خارج ذواتنا .
يمكن تشبيه هذه الحالة الفريدة بحضور حفلة كونسرت و المكوث في حالة انتظار لمايسترو الفرقة حيث يكون هناك متّسع لتبادل الإشاعات و تشتيت الانتباه في أمور بعيدة عن الموسيقى تماماً ، و لكن ما أن يظهر المايسترو يتوجّه جميع الحضور بأنظارهم إليه و تختفي الهمهمة و اللغط فوراً و يغدو الجميع مشتركين في فعالية مشتركة واحدة .
يحدث عندما تغمرنا حالة الملل و الضجر أنّنا نشعر بانعدام أهمية كل شيء خارج ذواتنا ، و لكن ثمّة مغالطةٌ أساسيّة في هذا و هي ذات المغالطة التي بدأت بفهمها عندما قدتُ سيّارتي عائداً إلى منزلي في التجربة التي سبق و تحدّثت عنها : إنّ تركيز و تكثيف اهتمامي خوفاً من انزلاقي المفاجئ و الوقوع في فخ الخندق الجانبي خلق في داخلي ما يمكن تسميته " طاقة الملاحظة " ، و عندما استطعت أن أؤمّن نفسي من خطر الوقوع في هذا الفخّ صار بإمكاني الاسترخاء طوال الطريق و هو ما مكّنني من رؤية الخارج بعيون جديدة جعلتني أدرك كم أن هذا الخارج ممتع و باعث على الدهشة و هو الأمر الذي دفعني إلى التدقيق أكثر في خفايا الدهشة المستترة التي ينطوي عليها عالمنا ، تلك لا يمكننا ملاحظتها في الأحوال الاعتياديّة ، و يقود هذا الإدراك إلى زيادة جرعة الطاقة الإيجابيّة المختزنة في داخلي و هكذا تدور الأمور في حلقة من " التغذية الارتجاعيّة الإيجابيّة Positive Feedback " على عكس نظيرتها من " الطاقة الارتجاعية السلبية " حيث الضجر يولّد المزيد من الضجر !! ، و أعترف الآن أنّ الغرض الأسمى في حياتي كلها كان معرفة كيف أخلق هذه التغذية الارتجاعيّة الإيجابية بالفعل الإراديّ الواعي لا بانتظار ما تجود به علينا المصادفات المدهشة حسب .
* أبراهام ماسلو : عالم نفس أمريكيّ ولد عام 1908 و درّس في جامعات أمريكيّة عديدة مثل : كولومبيا ، برانديس ،،، و تعزى إليه نظرية التدرّج الهرمي للحاجات الإنسانية و له العديد من المؤلّفات منها ( الأديان و القيم و التجارب الذرويّة Religions , Values & Peak Experiences ) ، و قد أكّد في معظم كتاباته على وجوب التركيز على السمات الإيجابيّة للأفراد بدل التعامل معهم باعتبارهم سلّة من الأعراض السايكولوجيّة . توفّى عام 1970 .(المترجمة)