TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شتراوس: اللمسة الجارحة

شتراوس: اللمسة الجارحة

نشر في: 23 نوفمبر, 2014: 09:01 م

من يحب الموسيقى يستطيع أن يشمَّ رائحة "الـﭘرومز" في لندن. المهرجان الموسيقي الذي يمتد من 18 تموز حتى 13 أيلول من كل عام، في قاعة "ألبيرت الملكية". حضرتُ عدداً من عروضه، أحتملُ الطابور الذي يبدأ بالتشكّل ساعاتٍ عديدة قبل العرض، طمعاً بالحصول على تذكرة. حضرت ، من بين ما حضرت، عملين لـلألماني "ريتشارت شتراوس"(1864 ــــ 1946)، قُدّما في يوميْ سبت وأحد، بمناسبة مرور مئة وخمسين سنة على ميلاده. وهو أحد المفضلين لديّ، ممن أسهموا في شق مجرى الحداثة دون إفساد لرومانتيكيتهم. ولقد اجتهد البرنامج أن يقدم عمليْ أوكرا غاية في "التعبيرية"، هما "سالومي" و"الَكترا". أخذت مكاني لصق الحاجز، في "الـكاليري" الأعلى، الذي يشكل بالكونة مدورة، تتسع لثلاثمئة مشاهد، تُطل على القاعة برمّتها من فوق.
عاش شتراوس، وخاصة في سنواته الأخيرة، في مرحلة بالغة القتامة، احتلّتْ فيها النازية سدّةَ الحكم، وأدخلتْ ألمانيا والعالمَ برمته في نفق الحرب المعتم. وضع مرثية ما حدث في "الأغنيات الأربع الأخيرة"، آخر أعماله قبل وفاته. يسمعها العالم دون توقف، ولا يُخفي الدموع التي تشفّ من وراء أجفانه. لأن حماقة هتلر وقواه الشريرة تكاد تكون مرئية تحت ثياب الساسة الطموحين حيث كانوا، الذين يُحسنون الابتسامة الوديعة أمام عدسة الكاميرا.
ولكن شتراوس كان، خارج هذه القتامة، وافرَ الانتاج، خاصة في حقل الأوكرا: (فارس الوردة، آرابيللا، إنتَرْميتسو، المرأة الصامتة، أريادنة في ناكسوس، المرأة التي بلا ظل، دَفني..)، وحقل "القصيدة السيمفونية"، السيمفونية التي تعتمد حكاية: (دون جوان، الموت والانبعاث، هكذا تكلم زرادشت، دون كيشوت، حياة بطل، سيمفونية جبل الألب). وغزارته كانت دائمة الحيوية والجدة. إنه امتداد لـﭬاكنر ومالر، ومُعبّد الطريق باتجاه حداثة "التعبيريين"، ولعله أهم موسيقي غطى مرحلة النصف الأول من القرن العشرين، والأكثر تواضعاً بين الجميع، فحين سئل عن رأيه بنفسه أجاب: "لعلي لم أكن مؤلفاً موسيقياً من الدرجة الأولى، ولكني في الطبقة الأولى من الدرجة الثانية." وهو تواضع لا يخلو من مبالغة.
والعملان اللذان أعرض لهما الآن هما مطلعُ نضجه، ومطلعُ شهرته في آن. ألّف "سالومي" عام 1905، وهو في الأربعين من عمره. اعتمد مسرحيةَ الأيرلندي أوسكار وايلد الشهيرة آنذاك، وحقق فيها ردودَ أفعال متحمسةً من قبل الجمهور والنقاد والموسيقيين، فاعتبرها مالر " بركاناً حيّاً". وهي بركان حيٌّ حقاً، وأنا استقبلها من علٍ. باستثناء الهدأة الغنائية التي تستغرقها "رقصة الأوشِحة السبعة" التي تعهدت سالومي أن تؤديها، إذا ما وعدها زوج أمها الملك "هيروديا" بقطع رأس "يوحنا المعمدان"، لأنه تمنّعَ عن تقبيلها. رقصة تنزع فيها سالومي أوشحتها السبعة، وشاحاً إثرَ آخر حتى تتعرى. إلا أن المشهد الأخير يمثل الذروة الدرامية، حين تعلن سالومي (صوت سوبرانو) حبها الأبدي لـ "يوحنا المعمدان"، ثم تنحني على الرأس المقطوع فتقبّل الشفتين.
الأوبرا "سالومي" كتلة موسيقية واحدة، من فصل واحد يمتد لساعتين. وكذلك الأمر مع "أليكترا" التي ألفها عام 1909، عن نص عمله الشاعر هوفمانسثال له، وكان كثيرَ التعاون معه، عن دراما سوفوكلس اليونانية. ولكن ما أبعد الدراما اليونانية عن هذه. فقد شاء الشاعر والموسيقي أن يجعلاها بالغة التعبيرية في حداثتها. صار التركيز على رغبة أليكترا التي لا مرد لها للانتقام من أمها، التي اغتالت أباها "اكاممنون" عند عودته منتصراً من حرب طروادة. هذه الرغبة المثيرة للذعر بسبب وحشيتها، ضراوتها وظمئها للدم، جاءت مُعززةً بموسيقى تخرج من اوركسترا وحنجرة سوبرانو منفردة لا تنقطع أنفاسهما لحظة واحدة. كنت استقبلُ الموسيقى ولا أتطلع إلى المشهد شبه التمثيلي، الذي يتم على المسرح مقابل الأوركسترا. لأني كنت أشعر أن موسيقى شتراوس مكتفيةٌ بذاتها، لا لتقديم حدث حكائي خارجي، بل للتعبير عن معترك داخلي، لكائن ممزق بفعل مواجهة خاسرة مع وجود لا منطق فيه، وغير عادل.
أمسكتْ موسيقى ريتشارد شتراوس بي في قبضتيها، يوميها، وشحذتني كحافة سكّين. فأي تماس مع الوجود سيترك أثراً دامياً. ولكنه أثرٌ يُشبه مذاقَ النبيذِ على اللسان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram