اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > مهمــة صحفية فـي مستشفــى حـكـومي

مهمــة صحفية فـي مستشفــى حـكـومي

نشر في: 23 نوفمبر, 2014: 09:01 م

 في العام 2007 اضطررت لزيارة احد المستشفيات الحكومية في العاصمة بغداد , ذكرت التاريخ لأنني لا اعتقد بأن هذا التاريخ سيمحى من ذاكرتي على المدى المنظور , جثث وفوضى, تزوير "طبلات" مستشفى لمنح إجازات وهمية لطالبيها من الموظفين، وغيرها من الممارسات ا

 في العام 2007 اضطررت لزيارة احد المستشفيات الحكومية في العاصمة بغداد , ذكرت التاريخ لأنني لا اعتقد بأن هذا التاريخ سيمحى من ذاكرتي على المدى المنظور , جثث وفوضى, تزوير "طبلات" مستشفى لمنح إجازات وهمية لطالبيها من الموظفين، وغيرها من الممارسات التي لا تليق بصرح علمي وإنساني كهذا.

لم يدفعني الفضول بعدها للقيام بزيارة استطلاعية للمشفى ذاك او سواه , فمن منا يرجو القيام بذلك على أية حال, ولكنني كنت استمع للاحاديث المتواترة عن جودة الخدمات التي يقدمها المشفى الفلاني في منطقة معينة على عكس الخدمات الرديئة التي يقدمها نظيره في المنطقة الأخرى.
 
فوبيا
حسناً، انا اعترف بأنني مصابة بفوبيا من نوع خاص، انها فوبيا "زيارة المستشفيات"، لكنها تختلف عن تلك التي يمكن ان تتبادر لذهن القارئ , فحالتي أشبه بما يمكن وصفه بـ (الخوف من اكتشاف الحقيقة) ، حقيقة ان المستشفيات في العراق تخلو من مقومات تجعلها في مصاف المستشفيات في الدول المتقدمة بالشكل الذي يتلاءم مع امكانات وميزانية بلد غني كالعراق ، خصوصاً في الجانب الانساني الذي بات يمثل أولوية في ظرف صعب كالذي نمر به.
قبل بدء التحقيق كان عليّ إتمام بعض الإجراءات القانونية والتي تمكنني من الحصول على تسهيلات لدخول اي مستشفى , لذا لجأت لوزارة الصحة التي ابدى فيها المكتب الإعلامي تعاونه لتسهيل مهمتنا.
بعد وصولنا الى مستشفى الكندي التعليمي الذي اخترناه بصورة عشوائية, تخوفنا من صعوبة الدخول الى هناك بسبب أن يوم الزيارة كان يصادف عطلة رسمية لأغلب العاملين في القسم الإعلامي، لكن ماحدث كان العكس تماما ، حيث ،وبعد عدة أسئلة واجراءات روتينية من قبل حرس المستشفى والموظفين الآخرين، تمكنا من الوصول لمدير مكتب السيد مدير المستشفى، والذي كان متعاوناً لأعلى درجة حيث ساهم بإجراءات الموافقة على دخول الطاقم ووصوله لكافة الأقسام بعد ان طلب من مسؤول شؤون التمريض مرافقتنا في رحلتنا بين أروقة المستشفى.
كنت طيلة تجوالي ابحث عن إجابة لسؤال واحد : هل ان مهنة الطب في العراق خلعت رداء الانسانية تماماً ؟ ام ما زال هنالك ثمة امل؟ وهل وصلت آفة الفساد الى هذا المفصل المهم من مفاصل الدولة أم ان مايشاع لا يعدو كونه مبالغة لا أكثر.
رحلة
توجهنا في البداية نحو الجناح الخاص للمستشفى، كان كل شيء مثالياً تقريباً، عدا منظر سيدة كبيرة في السن تنام على جانب الممر قرب الحديقة قبل وصولنا لوجهتنا، تلتحف غطاءً عتيقاً , وتغطي وجهها بعباءتها ، وعندما قمت بسؤال السيد مسؤول شؤون الممرضين عن هذه الحالة أجابني بانها قد تكون مرافقة لأحد مرضى الحالات الحرجة ممن يمنع اقتراب ذويهم بسبب التشدد في اجراءات السلامة.
" 43 هو عدد الأسرّة الموجودة في الجناح الخاص" قال الدكتور (علي روضان شويلف) رئيس قسم الجناح الخاص ، وأضاف في معرض إجابته عن سؤال توجهنا به اليه عن الفرق بين الجناح الخاص والعام "الخدمات الفندقية التي تقدم في الجناح الخاص هي افضل نوعا ما من الجناح العام , حيث الغرف المعزولة , اضافة الى ان موضوع إجراء العمليات الجراحية لا يكون من ضمن سياق الجدول الروتيني حيث ان بإمكان حتى الطبيب المتقاعد على سبيل المثال إجراء العمليات بالتنسيق والاتفاق مع ادارة المستشفى وفي اي وقت ".
وعن واقع الممرضين ومدى نجاح تجربة استجلاب طواقم هندية للخدمة في المستشفيات أكد على ان "الكادر الهندي يتقن العمل , لا يتململ ويعرف جيدا ما يريده الطبيب ، ولديه استعداد للعمل حتى خارج الدوام الرسمي , ممكن ان يكون الموضوع مرهقا ماليا للدولة, لكنه ربما يستحق المجازفة والعناء للارتقاء بالواقع الصحي والطبي. "
اما عن الحلول التي يعتقد بأنها ستكون جديرة للارتقاء بالواقع التمريضي والطبي والحد من الظواهر السلبية التي استشرت في السنوات الأخيرة في بعض الأقسام والاختصاصات الطبية أشار د. شويلف الى ان " زيادة الحوافز ستساهم بشكل واضح في ذلك , على سبيل المثال فان أطباء التخدير ذوي الدخل لمحدود - بسبب تحديد اختصاصهم بعكس الطبيب العادي- ,كان لهم في وقت النظام السابق امتيازات , مثلا إقامة دورية سنة واحدة فقط في مركز المحافظة , حوافز 200%, لتشجيعه للعمل , اما في الوقت الحاضر فان اغلبهم تركوا العمل بسبب قضايا الفصل العشائري او مشاكل اخرى ".
المواطن ودوره
اكملنا تجوالنا في أروقة الجناح الخاص , ولاحظنا بعد عدة أسئلة عشوائية للمرافقين إجماعهم على جودة الخدمات المقدمة في هذا القسم وعلى مستوى أداء العاملين الذي يكاد ان يكون ممتازا.
أثناء تجوالنا التقينا بالمعاون الطبي (قيس عبد الرحمن كريم) والذي تحدث لنا عن مسائل عدة من ضمنها واقع العمل في مجال التمريض والفرق الذي يمكن تشخيصه بين الجناح الخاص والعام قائلا " لي من الخدمة ثماني سنوات توزعت بين الجناحين الخاص والعام والذي لا يختلف كثيرا عن الخاص, سوى ببعض الامتيازات."
وأضاف " لتغيير واقع الممرض في المستشفيات توجد ضرورة لإقامة دورات وورشات تدريبية خارج العراق لتطوير الخبرات بشرط ان تكون دورات معززة بشهادات لغرض تحقيق الفائدة الحقيقية من الدورة ,وعندما يفشل في اجتيازها يعاقب".
ولأنني على يقين بأن هنالك الكثير مما يمكن سرده عن الواقع السلبي للمستشفيات العراقية فقد بادرت بسؤاله :
هل توجد حالات معينة يتم فيها رصد انتهاكات ممرضين اوممرضات بحق المرضى او التقصير في أداء واجبهم جراء عدم تقاضيهم أجورا معينة فرد بالقول " توجد حالات فردية وهي قليلة جدا لا تعدو الـ1% ومن يقوم بها هم فقط ضعاف النفوس".
وشدد على ان " المواطن احيانا يساهم بشكل سلبي في انتشار بعض الظواهر السلبية, فالممرض لا يمكن له ان يتجرأ على اخذ اي مبلغ مالي لتغيير شرشف سرير او إعطاء دواء مالم يستقبل بالترحيب والقبول من قبل الأهالي والمرافقين الذين يكتفون بالصمت في حالات مماثلة".
انتهت جولتنا " الموفقة" في الجناح الخاص وتوجهنا لأقسام أخرى كالباطنية والحروق , وأينما توجهت بسؤالي للأهالي الذين عرفوا هويتي الصحفية سلفا كانوا يبادروني بالإجابة ذاتها " كل شيء ممتاز " او " الممرضات متعاونات جداّ", حتى إنني قمت بإخراج عدة ممرضات من غرفة تعج بالمريضات وحاولت سؤالهن عن حقيقة واحدة : هل الممرضة التي تشرف على علاج مريضتهن تتلقى أتعابا عن ذلك او لا ؟ فكانت الإجابة النفي وبإصرار. 
قبل ان نختتم الزيارة تحدثنا الى مسؤول شؤون التمريض في مستشفى الكندي , خالد ناصر حسين الذي قال ان " هنالك في مستشفانا 350 منتسبا عليهم ان يتلقوا كحد ادنى 7 دورات تدريبية , لكن ما يحدث انه تم تقسيمها وتوزيعها بواقع دورة كل شهر او كل شهرين كترشيح ممرض او ممرضين داخل دائرة صحة بغداد الرصافة او خارج نطاق الدائرة عن طريق الوزارة مركز التدريب والتطوير , اما في الوقت الحالي فقد شهدت الورش التدريبية توقفاَ منذ ما يقارب العامين , وأصبحت اكثر تخصصا على الوحدات الحرجة كـ:( RCU,CCU).
ختام الزيارة كان في غرفة مدير مستشفى الكندي التعليمي الدكتور (بشير عبد الله) الذي رحب بطاقمنا وعرفنا على سياسة المستشفى والتي ينتهجها منذ تسلمه الإدارة وقال " إدارة المستشفى تحاول جاهدة وبالامكانات المتاحة ان تصنع التغيير , فقد أحدثنا طفرات في المجال الطبي , منها على سبيل المثال إجراء عمليات ربط القنوات الصفراوية لأول مرة , استخدام تقنية ERCP لفتح الممرات الصفراوية لاول مرة, استبدال مفصل الركبة, استخدام نواظير المفاصل, اجراء عمليات الفاكو للعين ,واستحداث قسم لغسل الكلى هو الأكبر في العراق , كل هذا وصلنا اليه من خلال روح الفريق ".
وأردف " الصورة المثالية في الحقيقة غير موجودة, حيث قد يحصل إخفاق في العمل التمريضي والطبي بصورة عامة لان الممرض او الطبيب هو انسان عراقي في النهاية غير معزول عن مجتمعه وما يواجهه من تحديات".
انتهت الزيارة ، وقد رافقنا السيد مدير المستشفى بعد ان حمّلنا أمانة إيصال صوته وصوت الطاقم الطبي في مستشفاه الى أسماع المسؤولين في الدولة للإسراع بإقرار الموازنة او إيجاد بدائل لكي تستمر عجلة العطاء ولا تتوقف.
لست مريضة , لكنني مضطرة للتمارض !
لم اجد مانعا من ادعاء المرض والقيام بجولة اخرى في مستشفى اخر لكي اقطع الشك باليقين وأتمكن من الخروج بيقين من ان مستشفياتنا تخطو بخطى بطيئة لكنها على الأقل ثابتة.
في الحقيقة احترت بالمرض الذي يمكنني الادعاء به, اضافة الى إنني سأساهم في إشغال سرير قد يكون هنالك من هو أحوج اليه مني, لذلك انتظرت تحديد موعد ولادة احدى قريباتي لكي استطيع مرافقتها الى مستشفى الولادة وفي ذات الوقت أتمكن من الدخول الى المستشفى بغير ثوب الصحافة والهوية الصحفية وأتوجه الى هناك بصفتي مريضة او مرافقة لمريضة. 
اجراءات الدخول كانت روتينية , حيث فحصت الطبيبة المناوبة قريبتي التي كانت تتألم وطالبتها بالذهاب الى المنزل لان موعد ولادتها لم يحن بعد, وبالفعل غادرنا وعدنا بعد انتصاف الليل بقليل حيث اشتدت أوجاع الولادة.
بعد العودة, تم تخصيص غرفة لقريبتي كون المستشفى أهليا , وبقيت قريبتي تتألم لان الطبيبة قررت ان يكون موعد الولادة بعد ساعة من الآن, طيلة الوقت كنت بانتظار كلمة " طيبة " واحدة تشير الى اهتمام الطاقم التمريضي او الطبي بالحالة , او إطلالة لوجه بشوش يطمئن المريض او ذويه عن حالته, لكنني انتظرت بلا فائدة.
الممرضة المناوبة , قامت ببعض اجراءات روتينية منها ربط مغذ على يد قريبتي وترتيب سريرها , وبعد ان أتمت المهمة , وقبل مغادرتها سألت بصوت واضح " ماكو اكرامية ."
في حالات مشابهة فان الأهالي حتما وكما هو معتاد سيشعرون بالحرج من الرفض لئلا يتهموا بالبخل او غيره, كذلك فقد يدفعهم الفعل للتفكير بالعواقب, كأن يتم إهمال حالة مريضهم او يتعرض للإساءة لذلك يلجأون الى الحل الأسرع , عبر إعطاء الممرضة ما تطلبه بصمت. 
أتمت قريبتي ولادتها بسلام ، وقبل خروجها من صالة الولادة لا بد من الإشارة الى ان هناك عدة أحداث روتينية تجري قبل ان تصل مريضتنا او اية مريضة اخرى الى الغرفة المخصصة لها :
*تطل ممرضة بوجه مبتسم لتقوم بتبشير العائلة بسلامة المريضة وجنس المولود لتتمكن من اخذ " حلاوة " السلامة , وقد تكون اكثر من ممرضة في هذه الحالة , وبحسب جنس المولود تتغير فئة المبلغ المالي.
*خروج المريضة برفقة نصف دزينة من الممرضين والممرضات ممن يقومون بدفع " السدية" , او حمل المريضة الى فراشها في غرفتها في حال كانت المريضة غائبة عن الوعي وتحت تأثير المخدر , وكل هؤلاء سيختفون بعد برهة ولن يشاهدهم احد لاحقا لان مهمتهم محددة سلفاَ , حمل المريضة , واخذ الإكرامية !
* وصول المريضة الى غرفتها, لتبدأ بعدها الزيارات الدورية من قبل الممرضات اللاتي لن يتوانين عن طلب الإكرامية بدون أية مناسبة تذكر, وهذا ماحدث بالفعل, حيث وقفت الممرضات في باب صالة الولادة , وطالبن بالإكرامية , ولكون السيناريو مكررا فقد قامت قريبتي بتوزيع مبالغ مالية فئة 10 الاف دينار لكل واحدة منهن , فاحتججن على ذلك وطالبن باستبدالها بمبلغ 25 الف دينار , وهو ماتمت الموافقة عليه بدون ممانعة تذكر.
ختام
قبل ان تنتهي الزيارة , قمت بإحصائية سريعة , حيث الغرف في هذا الطابق كانت ما يقارب العشر غرف او اكثر قليلاَ لو ان كل عملية ولادة استقطعت فيها الممرضة مبلغا ماليا من المرافقين ولنفترض انه يكون 10 الاف دينار كحد ادنى , لخرجنا بنتيجة بأنها تتقاضى مئة الف دينار خلال اليوم الواحد – على فرض ان هذا القسم لن يستقبل حالات سوى هذه الحالات العشر – وبالتالي فان الحد الأدنى للإكراميات سيصل في نهاية الشهر الى مبلغ تقريبي يصل الى 3 ملايين , وهي نسبة غير مؤكدة قابلة للزيادة او النقصان. 
انتهت الزيارة وتبين لي الفرق بين الصورتين , بين ان تكون مريضا عاديا او ان تكون صحفيا, وهنا أود التنويه لأمر مهم , فقد يكون المستشفى الاول الذي قمت بزيارته ، قد يكون بالفعل قد قضى على هذه الآفة ولم يتبق منها الا بضع حالات فردية , اوقد تكون هويتي كصحفية قد غطت على تفاصيل اخرى. 
الفساد الذي وصل الى ابسط مفاصل الحياة في العراق لم يكن القطاع الطبي ببعيد عنه, لذا فان القضاء عليه او الحد منه يتطلب جهدا مضاعفاَ لأهمية هذا المفصل ولحساسيته خصوصا في الظرف الذي يمر به البلد , وهذا يتلخص في محاور عدة , كأن يكون إجبار المستشفيات واداراتها على مراقبة ومحاسبة المقصرين عبر اجراءات صارمة , فالعقوبة قد تكون هي الحل في حالات مماثلة حيث ان كل ممرض من الممكن ان يعاقب لو تم إثبات تقاضيه أية مبالغ مالية من قبل المرافقين او المرضى وذويهم , كذلك تنبيه الأهالي وتوعيتهم بضرورة عدم المساهمة في انتشار هذه الظاهرة من خلال الامتناع عن الدفع, او فتح باب الشكوى , وغيرها من الوسائل التي تتكفل كل مستشفى بالإعداد لها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram