TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > من ثِمار الترف

من ثِمار الترف

نشر في: 7 ديسمبر, 2014: 09:01 م

شعرُ ما بعد الحداثة الانكليزي تيار طليعي وتجريبي. وهو، شأن كل التيارات الطليعية والتجريبية في الأدب، يبدأ بفعل عوامل محيطة تشكل الثروة والازدهار المادي أحد أهم دوافعها، الأمر الذي يذكرنا بفورة تيار "الفن من أجل الفن" الذي شاع في المرحلة الأخيرة من الفترة الفيكتورية (1880-1900) المزدهرة فنياً. إن السبعينات من هذا القرن، التي شهدت محاولات أدب ما بعد الحداثة أو "أدب اللغة" إنما جاءت على اثر مرحلة يقظة اقتصادية وصناعية عرفتها بريطانيا بعد أزمة السويس.
إن أول علامات الحركة الشعرية المترفة هذه هو انشغالها بموضوع اللغة. وأصبح النص الشعري يقرن، من حيث التأثير، بالفيلم السينمائي والتلفزيون، لأنه نتاج تزاوج بين ما هو بصري وما هو قاموسي، متوسلا بالكولاج حينا، وحينا بفن الطباعة وصف الأحرف، وينتفع أحياناً أخرى من تقنيات الطابعة اليدوية منصرفاً إلى الشكل البصري دون الالتفات إلى المعنى. ويتجاوز هذا إلى جهاز الكاسيت ليشكل النص "قصيدة الصوت". أجهزة السبعينات هذه سرعان ما تلاشى تأثيرها، بفعل التطورات في الصناعة والتقنية.
النظريات النقدية ساهمت في تشغيل ماكنة "أدب اللغة" هذه إلى أقصاها، وإثارة مزيد من فورات الخروج عن "اللغة" الواقعية، واللغة الوسيلة من أجل تحرير البراعات اللفظية الكامنة فيها. "النقد التفكيكي" الذي طرحه المفكر الفرنسي جاك دريدا كان معززاً نظرياً لهذا التيار. فهو يرفض فكرةَ المعنى المحدد أو الرسالة المحددة للنص الشعري. ذلك المعنى الذي يصدره الشاعر حول الواقع الخارجي إلى القارئ.
بدأت الحركة في أوائل السبعينات كحدث غير ملحوظ تقريباً داخل حركة ما بعد الحداثة الواسعة. ثم نشطت في الثمانينات. ولعلها في نهاية هذا العقد فقط استطاعت أن تحظى بإدراك وفهم واسعين، من الناحية العملية والنظرية.
إن شعر مابعد الحداثة هو شعر جملة جديدة، جملة ذهنية تربطها بالنثر النقدي والفلسفي أكثر من وسيلة. وهذه الجملة لا هوية لها محددة مسبقا. فأنت أحيانا قد يستعصي عليك الحكم على نص لا تجده ينتسب إلى النثر، الشعر، أو النقد. ومن هنا تتأتى صعوبته. وهي صعوبة لا تشفع لها الشروح والهوامش لأنها من صلب تكوين الجملة التي قد تُبنى على الفوضى النحوية عن قصد.
كانت لهذا التيار مجموعة كبيرة من الشعراء ينتسبون إلى أجيال متقاربة في انكلترا وأميركا. وأصواتهم، كما يبدو، لم تكن على صلة وثيقة بالمناخ الشعري الشائع. ولذلك فهي أصوات ليست معروفة بالصورة التي تطمّعُها بالشهرة. من تلك الأصوات سوزان هاو، التي تبدأ إحدى قصائدها بتقنية مطبعية، تضع بعض السطور داخل النص مقلوبة بحيث تستدعي القراءة أن تقلب الصفحة كاملة. ومع هذا فأنت في النهاية لا تقع إلا على جمل مبتورة:
توقفَ عن الالتصاق بي/ إنه لم يترك الأرض/ مشهد التعرف
تلك أفكاراً/ هذه ليست هدفاً ... الخ
بوب بيريلمان تتحكم بقصيدته تركيبة رياضية وهندسية في توزيع المفردات، فيكون الشيء البصري والمسموع عنصريْ القصيدة الأساسيين، ويكون الإدهاش وحده هو الثمرة:
"مالكاً/ مالكا ذلك/ مالكا ذلك/ مالكا ذلك الذي فقدانه
مالكا ذلك الذي فقدانه سيثأر له
مالكا ذلك الذي فقدانه سيثأر له من قبل تاريخ متواصل ..."
توم ماندل يكتب عن ما هو مرئي :
"بدون ضوء لا شيء مرئي
بدون وسيط شفاف لا شيء مرئي، ولا شيء غير محدود مرئي أيضا
بدون لون لا شيء مرئي/ لا شيء مرئي إلا من بعيد
وبدون وسيلة لا شيء مرئي ..."
لاشك أن هذا التيار لم يخرج بغتة من عدم، فالروح الطليعية كانت لصيقة بحركة الحداثة منذ عشرينات هذا القرن وثلاثيناته. كما أنها أخذت أشكالا عدة في داخل التجريبية وداخل تيار الخروج الإدهاشي عن أي معنى، ودوره منطقي داخل هارموني الحركة المعقدة التي تعيشها الحياة الغربية. ولكن ما الذي بقي اليوم من هذه الفورة اللصيقة بالترف الاقتصادي؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram