TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > موسيقى بشارة الخوري

موسيقى بشارة الخوري

نشر في: 14 ديسمبر, 2014: 09:01 م

بشارة الخوري (مواليد1957) حفيد بشارة الخوري (الأخطل الصغير). موسيقي يقيم، منذ 1979، في باريس، ولقد حصل على الجنسية الفرنسية عام 1987. درس الموسيقى في لبنان، ثم شرع في التأليف الموسيقي منذ 1969، وله اليوم أكثر من مئة عمل موسيقي. بدأ شاعراً يوم كان صبياً في بيروت. وكنت حينها أعيش هناك، في منفاي البيروتي الأول. أنعم بالبحر والجبل، والشعر المطعّم برائحة الكَرز وطلاقةِ المفلس. كنت على معرفة بأبيه عبد الله الخوري، وهو شاعر متواضع لا يقل رقّة عن أبيه. عرّفني على الصبي، واستجبتُ لطلبه أن أكتبَ مقدمةً لمجموعته الشعرية الثانية. حين أُصغي لموسيقى بشارة اليوم أستعيد بصورة غامضة قصائده التي تتمتع بلمسة الأسى والتأمل ذاتها. الفارق أن أسى الصبيّ في أشعارِه سبقَ الحربَ الأهليةَ الحمقاء، التي امتدت سنواتٍ عشر، في حين اتخذ هذا الأسى لوناً داكناً، لا يخلو من ذعر، في أعماله الموسيقية التي خرجت من رحم تلك الحرب، أو تكاد. ولكن العلاقةَ بينهما عزيزةٌ على قلب بشارة، فهو يحرص على أن ينتخبَ عناوين شعرية لكل عمل موسيقي، دون أن يكون لهذا العمل برنامجٌ حكائيٌّ، شأن فن "القصيدة السيمفونية" المعروف: لبنان في اللهب، هارموني الشفق، مرتفع الغرابة، نبيذ السحب، اجتياح الأنهار... عناوين تتولد من مخيلة وذاكرة لبنانيتين، لا تفارقان مصادر تمويلهما الكامنين في طبيعة البلد وتاريخه.
أحببتُ موسيقاه منذُ صارت تتدفقُ بحيوية من دور النشر الغربية، وخاصة من دار ناكسوس Naxos (يمكن الإصغاء لها في موقع الدار الإلكتروني عن طريق الاشتراك)، وكتبتُ عنه وعنها أكثر من مرة. فهي أوركسترالية في أغلبها، وقصيرة نسبياً، وليس له من موسيقى الغرفة، أو موسيقى الأصوات البشرية، ما يُقارن بالأعمال الأوركسترالية. وبشارة، حين يتحدث عن موسيقاه، عادةً ما يذكر الطبيعةَ كمصدر إلهام، ولذلك يتولّد اللحنُ من صورة، وتتابعُ الألحان من تتابع الصور. وهو إرثٌ شعري بالتأكيد.
قبل أيام أصدرت دار Naxos له ثلاثة أعمال في CD واحد: كونشيرتو الكمان، وكونشيرتو البوق، وكونشيرتو آلة الكلارِنيت. وأحدها لا يتجاوز الـ 25 دقيقة. ومن حركات الكونشيرتو الثلاث المعهودة نرى الحركة الثالثة دراماتيكية، ولكن بعنف يستحضر لحظات رعب وخاصة في كونشيرتو الهورْن أو البوق، التي تكاد تذكرني بالموسيقى التي تصاحب لحظة الجريمة في فيلم "سايكو" لهيتشكوك. لمسةُ الذعر هذه لها جذرٌ في تربة الحرب الأهلية الدامية، التي أرجفت كيان الانسان في داخله. 
في الكرّاس الملحق بـالاسطوانة مقالةٌ وافية عن الأعمال الثلاثة كتبها Gerald Hugon، وفيها يتحدث بشارة عن "كونشيرتو البوق" المعنون بـ "الجبل المظلم" قائلاً: " بأنه مسلسلٌ متتابعٌ من الصور المتسارعة جاءتني عبر مشي متكرر طويل على جبال لبنان المرتفعة أيام الطفولة. الجبالُ الخضر أو المغطاة بالثلوج، قاحلةً كانت أو مظلمة وكئيبة أو صامتة. ولكن قبل كل شيء، الجبالُ في الليل، في مخيلتي وأنا كبير، حيث تتعالى هذه الأماكن السحرية فوق كوكبنا في السماء، ثم تذوب في الضباب والأفق... ".
وعن كونشريتو الكلارِنيت المعنون بـ "صور الخريف" يقول: "إنها موسيقى مُتخيَّلة أكثر منها موسيقى وصفية، بالرغم من عنوانها، الذي يعتمد بصورة أساسية على صور، ولّدتها مخيلتي وذاكرتي. انطباعات واستعادات تشدّها الألوان (النغمات) الشعرية لبعض وتتلاشى، مثل سحب الخريف، في رحلة عبر الزمن، باتجاه فضاءات بعيدة... عمل موسيقي يستثير، في لحظة بعينها، سماء الشرق...". ولا يختلف كونشيرتو الكمان، المعنون بـ "في تخوم اللامكان"، عن هذين كثيراً، من حيث الانتساب إلى تأمل الطبيعة، واستعادة الذاكرة. 
في الأعمال الثلاثة هذه، وفي معظم أعمال بشارة الخوري، تبدو الطبيعةُ والتاريخ قوىً كاسرةً، والانسانُ أمامها يبدو بالغَ الضعف، بالغَ الهشاشة. وهذه رؤيا لصالح موهبته. لأن الدراما العظيمة، التي بدأتها ملحمةُ كلـكامش، وعززتها الدراما اليونانية، تولّدت من هذه المواجهة غير المنصفة بين الانسان وقدره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram