أما وقد أنقضت أيام المحرّم، ولم يبق في خريدة صفر إلا اليوم واليومان، وكما لو انها من دموع وآلام انزاحت غمامة الحزن العاشورائية، التي أناخت بكلكلها على اهلنا في الوسط والجنوب. ولأن حاجة الروح للفرح أعمُّ واشمل من حاجتها للأوجاع والمآسي حريٌّ بنا ان نحتفل مع أشقائنا المسيحيين بأعياد الميلاد المجيدة، هم الذين شاركونا أحزاننا في زيارة الأربعين الاخيرة: هكذا قلت لأبنائي فرأيت الكثير بينهم من هش وبش وأستأنس بهذا، وقليل منهم من قال باني اخالف بذلك الاهل والجيران، ذلك لأننا سنحتفل بعيد أناس ليسوا من ديننا! وكنت حائرا بين الرد على هذا، لكني ذهبت للسوق واشتريت شجرة الميلاد، وعلقت الكرات الحمر بين أغصانها واكثرت عليها من الاجراس والمصابيح الملونة، وحين تم لي ذلك اوقفتها عند باب البيت الداخلي براقة لماعة مبتشرة.
قد يبدو فعل كهذا خارج السياق العام لرجل يسكن قرية اقصى جنوب العراق، وقد يقول آخر: دعوا الرجل فهو يبالغ في العزف خارج النوتة، لكني لم آت ببدعة، ولم أتجرأ، فقد ورثت ذلك، وبما يشبه السُّنةَ عن أبي، هو الأميّ، الذي علمني أن احتفل في رأس كل سنة هجرية، ابتهاجا بهجرة النبي وسلامته التي كانت سلامة للدين الاسلامي كله، وهو الذي كان يجلب رأس القند من سوق الهنود بالعشار مع الشموع والبرتقال والخس وأغصان الآس يقتطعها من بستانه محتفلا وإيانا بعيد النوروز، عيد السنة الفارسية. وهو ذاته، ابي، الذي كان يحمل على رأسه صينية القاسم، مملوءة زبيبا وحُمّصا ومكسرات وورق نعناع وبخورا، ويطوف بها حزينا وفرحاً في المأتم، بالحسينية يوم السابع من العاشوراء. وهو أبي، ذاته الذي أجلسني في حجره قبالة الكعكة الكبيرة المحاطة بالبرتقال والكليجة والبيض الملون في بيتنا الطيني. إلى اليوم ظلت تضوع في روحي أبخرة الجذوع المحترقة والسعف النديان مخلوطة ببخور الجاوي وأغصان الاس واللبان العُماني، حيث يحتفل معنا بعيد رأس السنة، ونسمّيه عيد الميلاد .
لا أعرف كيف استدارت رحى الأيام على غير ما تهوى الانفس وتتطلع الأعين؟ ولا أجد تفسيرا لما نحن عليه من تردٍ وتراجع في القيم والمُثل إلا من خلال التغيير هذا، نحن نبتعد طويلا عن مؤشر الخير واسطرلاب الطمأنينة على الرغم من وجود بذاره بيننا، وما نلحظه من تشدد وعنت عند شبابنا لا يخرج عن كونه نتيجة لنكوص الانسان فينا، ووحشية بعضنا ضد البعض ممن نشترك معهم في الخلق والدين والمذهب والطائفة ومع من لا يوحدنا مشترك جامع معهم، كان ابي أقرب لحقيقة الفرح مني ويؤسفني أن أجد ابني أبعد عنها مني.
أمس، حين زارتنا في بيتنا موظفة الصليب الأحمر السويسرية الجنسية، صحبة أصدقاء أدباء ومثقفين كانت "أنيتا" متلفعة بشال قطني سميك، تدني عليها من الجلابيب السود الطويلة بما ليس في عهدها لنفسها ، وفي كل لحظة كانت تسالنا ما إذا كان بإمكانها القاء بعض مما تنوء به، ولم تفلح ابتساماتنا العريضة في طمأنتها، كانت تتحسب من كل شيء، هي التي ظلت تحمل الرسائل وكلمات الخير والمحبة الى ذوي السجناء والمأسورين في الشام وفلسطين والعراق، ظلت خائفة في البلاد التي كانت أمنا وسلاماً. ما الذي سنفعله لها لكي نستعيد معها صورة الوطن الذي نتمناه لداخليه والخارجين منه. ولماذا لا يفكر الغرباء فيه إلا بالخطف والقتل، من كان وراء ذلك كله .؟
وأنا أقف امام شجرة عيد الميلاد التي عند مدخل البيت، لا أجدني في حرج حين أقول: إن متوالية الجلد طوعت أبناءه فانستهم مواسم أفراحهم.. ومأتمية المشهد ما انفكت تتسع داخل الروح العراقية، مكتسحة كل ما هو مبهج ووردي في حياتهم، وما لم تتنبه المؤسسات الدينية والسياسية والشعبية إلى موطن الخلل هذا وتعمل على ترسيخ قيم المحبة والتوادد بين أباء الوطن الواحد بعيدا عن سموم التمذهب والتشدد في المعتقد وإقصاء المخالف في الرأي والفكر لن تقوم قائمة لهذه البلاد، وسنظل نجني حصيد ما نبذر من فرقة وتشرذم حتى يرث الله العراق ومن عليه.