أسفرت انتخابات الرئاسة التونسية عن عودة الكهل السبسي إلى بؤرة الأضواء، بعد أن ظن الجميع أن عهداً انقضى ساحباً معه كل رجاله إلى الظل، لكن وزير بورقيبة وزين العابدين العلماني، عاد ليكون أول رئيس للجمهورية الثانية في تونس، والتي يسيطر حزبه على برلمانها، وينتظر أن يسمي منه رئيس حكومتها، ونال الرئيس الجديد مباركة خصمه المنصف المرزوقي، رغم أن متطرفي الإسلام السياسي أحرقوا مقراً لحزب الرئيس، ونظموا احتجاجات عنيفة في مدن الجنوب، لكن ذلك لم يمنع السبسي من الإعلان أنه سيعمل مع الجميع أثناء توليه الرئاسة، معتبراً فوزه انتصاراً للتونسيين وللنظام الديمقراطي، والتأكيد أن المرحلة المقبلة يجب أن تُحكم بالتوافق والتشاور بين الفرقاء السياسيين، تعزيزاً للوحدة الوطنية، فيما أكد المرزوقي أن تونس انتصرت بترسيخها تقاليد ديمقراطية، وبانتخابات نزيهة وشفافة قطعت مع انتخابات الـ90 في المئة، بفضل شهداء الثورة.
يمكن اعتبار تولي السبسي سدة الرئاسة في الجمهورية الثانية، التي ولدت من رحم الدستور الجديد، شكلاً من استمرارية العهد البائد، رغم الثورة التي أطاحت نظام زين العابدين بن علي قبل ثلاثة أعوام، وكان زعيم "نداء تونس" رئيساً لبرلمانه وهو اليوم يتولى المنصب الأعلى في البلاد، في ظل نظام رئاسي- برلماني مختلط، يملك الرئيس فيه صلاحيات محددة في مجالات الدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، فيما يملك رئيس الوزراء كل السلطات التنفيذية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والمهم أن عودة رمز من رموز العهد السابق، تؤشر إلى سقوط الإسلام السياسي ممثلاً بحزب النهضة، وانتصار العلمانية التي اعتادها الشعب التونسي وتعايش معها، رغم ما شاب عهد بن علي من فساد، والأكثر أهمية أن الرئيس القادم من رحم ذلك العهد يعرف المساوئ التي شابته، وكرجل دولة كما يصف، نفسه يعرف وسائل تجنبها لتكون الثورة مثمرة، وملبية لطموحات الشعب الذي انتخبه وجاء به رئيساً.
الرئيس الجديد فاز على مرشح "الثورة والربيع العربي" الذي انطلق من تونس، ويبدو أنه وصل إلى غايته ،إن التزم السبسي بأهداف الثورة، وذلك على عكس الدول التي هب عليها نسيم الربيع التونسي، لكنه أشعل فيها حرائق لم تنطفئ بعد، نتيجة قفز الإسلام السياسي الإخواني على ظهر الثورة ليستأثر بالسلطة، وبتولي واحد من رموز دولة الاستقلال البورقيبي، تتأكد النهاية العملية لمشروع الربيع العربي بنسخته الإخوانية، مع أن اسم الباجي قايد السبسي لم يكن مألوفا عند شباب الثورة، لابتعاده عن الحياة السياسية منذ أكثر من عشرين عاماً، أي بعد سنة واحدة من حكم بن علي، ما يعني أن الرجل وريث لبورقيبة، وإن كان اختلف معه عند العديد من المحطات، أهمها انتهاك النظام لأسس الديمقراطية، ومنع التعددية الحزبية وحرية الإعلام، وهو أسس مجلة بالفرنسية بعنوان "الديمقراطية"، كان لها دور حيوي في نشر الثقافة الديمقراطية في بلد لا يؤمن بغير الزعيم الواحد، ولم يعد إلى الحكومة إلا بعد اعتراف بورقيبة، بالتعددية الحزبية وحرية الإعلام، فتولّى وزارة الخارجية لينتقل بعدها سفيراً في ألمانيا، ويعود ثانية للاضواء مؤسساً حركة نداء تونس لتحقيق المعادلة في المشهد السياسي، وليغدو حزبه، في وقت قياسي، القوّة السياسية الأولى التي فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان فتتولى تشكيل الحكومة، وبفوزه برئاسة الجمهورية، حقق استثناءً تونسياً جديداً، حيث أن الاحتجاجات الشعبية، التي أسقطت النظام السابق، اختارت كهلاً على رأس الدولة، في انتخابات كان الشباب فيها الغائب الأبرز، فهل هو الحنين الى بورقيبة؟ أم اليأس من حكم الإسلاميين وحلفائهم؟
تونس والقديم المتجدد
[post-views]
نشر في: 24 ديسمبر, 2014: 09:01 م