TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > القاعدة الذهبية ليست ذهبية!

القاعدة الذهبية ليست ذهبية!

نشر في: 24 ديسمبر, 2014: 09:01 م

تعد مقولة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" قاعدة ذهبية في الحياة القانونية والقضائية.. الجميع يتمسكون بها من أجل حفظ حق المتهم في البراءة الى أن يقوم البرهان الأكيد والدليل القاطع غير القابلين للطعن على ارتكاب المتهم الذنب المنسوب إليه.
لكن هذه القاعدة ليست ذهبية في الواقع ولا هي بالفضية أو النحاسية، فثمة العديد من الناس أدينوا وصدرت الأحكام الباتّة في حقهم تبيّن لاحقاً انهم أبرياء، وهذا يشمل أناساً لم يكن لبراءتهم اللاحقة أي معنى لأنهم أُعدموا، وآخر واقعة في هذا الشأن نشرت عنها وسائل الإعلام منذ أربعة أيام فقط، وهي تخصّ الصبي الأميركي الزنجي جورج ستيني الذي أُعدم في 16 حزيران 1944 بتهمة قتل طفلتين من العرق الأبيض قبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر.
يومها لم يقتنع كثيرون بان ذلك الصبي كان مذنباً برغم اعترافه بارتكاب الجريمة. قال البعض ان القضاء الأميركي كان متحيّزاً ضد الصبي الزنجي في بلاد كانت تتعامل مع الزنوج بوصفهم عبيداً وليسوا مواطنين. وظلّ بعض المحامين يسعى لإثبات براءة الصبي دون جدوى. ولكن في العام 2005 أعاد ثلاثة محامين البحث في القضية ونجحوا في توفير الأدلة على براءة الصبي ستيني الذي أكرهته الشرطة على الاعتراف بارتكاب الجريمة تحت التعذيب. وأمام الأدلة لم تجد القاضية كارمن مولينز بداً من فتح ملف القضية مجدداً لتأكيد براءة الصبي المغدور بعد سبعين سنة من إعدامه بالكرسي الكهربائي.. القاضية قالت إنها نظرت في القضية ليس فقط من أجل إثبات براءة الصبي ستيني وإنما أيضاً لكي تُعيد الولايات المتحدة، وبخاصة قضاءها، النظر في التاريخ وتحاول إصلاح أخطاء الماضي.
الخبر السارّ عن ثبوت براءة الصبي الأميركي الزنجي ذاع قبل يوم واحد من صدور الحكم في بغداد ببراءة كل من محافظ البنك المركزي المقال ظلماً وعدواناً قبل سنتين سنان الشبيبي ووزير الاتصالات السابق محمد علاوي، وهما كانا قد أدينا غيابياً في ما وُصفت بانها قضايا فساد إداري ومالي.
الشبيبي وعلاوي لم يكفّا يوماً عن تأكيد براءتهما، والإعلان بأن القضايا التي رُفعت الى القضاء في حقهما كانت كيدية.. وكما في حالة الصبي الأميركي الزنجي ستيني، كان هناك الكثير منّا قد دافع عن الشبيبي وعلاوي، استناداً الى معرفة شخصية بالرجلين والى سيرتهما المهنية. وهذه الصحيفة شكّكت في مناسبات عدة في دوافع الاتهام ضد الشبيبي خصوصاً، وكاتب هذه السطور كتب غير مرة مدافعاً عنه، وواحد من دواعي الدفاع ان الجهة التي اتهمت الشبيبي ومعه نائبه مظهر محمد صالح الذي بُرئ هو الآخر منذ أيام، وكذلك موظفون كبار في البنك اعتقلوا مدة طويلة وحُكموا بالحبس، لم تقدّم الدليل على ارتكابهم الجرم المنسوب اليهم، وان القضية كانت في الأساس كيدية.
دليل آخر قوي على براءة الشبيبي وصحبه ان اللجنة التي شكّلها مجلس النواب برئاسة نائب رئيس المجلس آنذاك قصي السهيل لم تنشر على الملأ نتائج تحقيقها، بل توفرت معلومات عن ان النتائج أبقيت طي الكتمان لأنها تُدين سياسيين، بينهم نواب، بغسيل الأموال خارج نطاق وصلاحيات البنك المركزي.
بعض الأساتذة في القضاء زعلوا منّا لأننا شكّكنا في عدالة ونزاهة بعض أحكام القضاء، ولم يكن لهم حقٌّ في الزعل، فنحن نريد لقضائنا أن يكون عادلاً ومنصفاً في أحكامه.. فكرة ان القضاء لا يخطأ غير صحيحة أبداً، وقضايا سنان الشبيبي ومحمد علاوي ومظهر صالح تثبت هذا، مثلما تثبته قضية الصبي الزنجي الأميركي جورج ستيني، وعشرات بل مئات من القضايا الأخرى، فالبشر خطّاؤون بطبيعتهم، والقضاة بشر.
والآن ربما يصير لزاماً تعديل قاعدة ان "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" الى "المتهم بريء حتى تثبت عدم براءته"، لأن الإدانة ليست دائماً دليلاً على عدم البراءة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عمر ياسين

    تشبيه ما حدث في امريكا بما حدث بالعراق يثير الغضب في داخلي هل قمنا بتبرءة محافظ البنك المركزي و علاوي بسبب بحثنا عن العدالة؟؟؟ام هي السياسة؟؟ هل قضية هؤلاء هي الثغرة التي يجب ان نحاول غلقها ام الفج العظيم في اساسات الوطن ؟؟ بعد اربيعين سنة حينما يفتح الاح

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

 علي حسين منذ ان ظهرت الديمقراطية التوافقية في بلاد الرافدين ،والمواطنونالعراقيون يبحثون عن مسؤول مختلف يمنحونه ثقتهم، وهم مطمئنون ، رغم أنهم يدركون أنّ معظم السياسيين ومعهم المسؤولين يتعاملون مع المناصب على أنها...
علي حسين

قناطر: ليلُ العشَّار الطويل

طالب عبد العزيز يحلَّ الليلُ باكراً في أزقّة العشَّار، أزقته القصيرة والضيقة، التي تلتفُّ عليه من حدود شبه جزيرة الداكير الى ساحة أم البروم، يحدث ذلك منذ سنوات الحرب مع إيران، يوم كانت القذائفُ...
طالب عبد العزيز

محاسبة نتنياهو وغالانت أمام محكمة الجنايات الدولية اختبار لمصداقية المجتمع الدولي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة يوم عظيم انتصاراللعدل عبارة تنم عن وصف واضح مركز ساقه الاستاذ المحامي الفلسطيني راجي صوراني عن طبيعة الدور الايجابي المؤثر للمحكمة الجنائية الدولية متمثلا بإصدار مذكرتي القاء القبض تخص...
د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الاندماج في العراق؟

أحمد القاسمي عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع...
أحمد القاسمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram