TOP

جريدة المدى > عام > عن الغناء "الملتزم" اليساري.. والأصولي الإسلامي!

عن الغناء "الملتزم" اليساري.. والأصولي الإسلامي!

نشر في: 26 ديسمبر, 2014: 09:01 م

دائما ما كان الغناء "الملتزم"، عدا حالات نادرة، يضرب عرض الحائط بجنسه الفني: الموسيقى، لذا كان مصابا على الأغلب بفقر دم واضح، ناهيك عن طابعه الظرفي و"المناسباتي"، واعتماده التهييج العاطفي للحماسة "الوطنية"، وهو ما يتعارض مع جوهر العمل الفني القائم عل

دائما ما كان الغناء "الملتزم"، عدا حالات نادرة، يضرب عرض الحائط بجنسه الفني: الموسيقى، لذا كان مصابا على الأغلب بفقر دم واضح، ناهيك عن طابعه الظرفي و"المناسباتي"، واعتماده التهييج العاطفي للحماسة "الوطنية"، وهو ما يتعارض مع جوهر العمل الفني القائم على إحداث تغيير عميق في المتلقي. وعند العراقي الخارج من مطاحن حروب متصلة، ثمة الحاجة الى الأمل، وتوفر أغنيات فيروز، "الوطنية- الانسانية" زادا روحيا لا توفرها الحماسة التي تثيرها "الأغنيات السياسية"، ومنها التي سادت في الأعوام الثلاثة الماضية التي تختصر الوطن بقوات منتصرة دائما (هي غير ذلك في الواقع). فالقياس الفني يرى الى الأغنيات "الوطنية" التي أبدعها عاصي ومنصورالرحباني لصوت فيروز بوصفها ارتقاء بالأغنية السياسية من مستوى اللحظة السياسية العابرة الى آفاق وجدانية واسعة، بل ان كثيرا من ذلك الإرث نستعيده بصفاء نادر اليوم، مثلما نستعيد أغنية عاطفية خالدة، كما ان لبنان وفلسطين والشام ودولا عربية كثيرة حين تحاول التثبت من حضورها "الوطني" وجدانيا، فهي تجد في ما غنته فيروز لها ذخيرة حاضرة(هل ننسى حصتنا منها عبر أغنيتها بغداد). كل هذا التأثير العميق لحضور يليق بفكرة الوطن، لم يقل عنه الرحابنة ولا فيروز انه "غناء وطني"، ولم نسمع منهم انه "غناء ملتزم"، انه غناء وحسب، ولكنه يحترم شروطه الفنية، ويعنى بفكرة التعبير الراقي عن المشاعر أولا وأخيرا.
ثم أي معنى هذا الذي تعنيه مفردة "التزام"؟ فاذا كان اليساريون والثوريون يرون في الغناء "الملتزم"، "التزاما بنهجهم الفكري وخدمة لقضيتهم"، فان ذلك أوقعهم وأوقعنا في مأزق تأتّى من وصف مماثل وإن جاء من نقيضهم الفكري: الإسلام السياسي المتشدد، فالحركات الأصولية تنتج أعمالا "غنائية" هي في حقيقتها أناشيد "ملتزمة"، صحيح انهما تياران مختلفان لجهة الالتزام، ولكنهما تحت ذريعة واحدة ينتجان عملا واحدا: غناء ملتزم!
مديح الأبطال والأفكار .."مقتل" الغناء الوطني والثوري
في استثناءات نادرة، كانت تتوافر لموجات "الغناء الوطني، الثوري، والملتزم" مواهب موسيقية حقيقية، مما كان يقرّب الأعمال الغنائية" السياسية" من جوهر فني مؤثر، ومراجعة لموروث عبد الوهاب اللحني، وعبد الحليم حافظ الغنائي وبعض مما غنته أم كلثوم، ونجاة الصغيرة، وشادية عربيا توفر مادة مناسبة لغناء يبلغ مديات الجمال والتأثير عن فترة صعود الأحلام "الثورية" خلال المرحلة الناصرية، ولكن اندراج أعمال كثيرة أيضا من نتاج المرحلة ذاتها في مديح عبد الناصر بطلا قوميا، وإعلاء "الجماهير" فكرة ثورية، شكل "مقتل" تلك الأعمال حتى مع عناصر جودتها الفنية.إنها الحال ذاتها في العراق، أثناء الحرب مع إيران، فقد تصدى ملحنون كبار كطالب القرغولي وجعفر الخفاف لانتاج غنائي كان يصب في جوهر العمل الموسيقي، لكن تمجيده فكرة الحرب، واعلاءها صدام حسين بطلا لايجارى، مع وجود استثناءات نادرة، أحال تلك الإعمال التي صاغتها حناجر معظم المطربين العراقيين فضلا عن عرب: وردة، نجاح سلام، سميرة سعيد ووديع الصافي، الى "مقتل" الغناء "السياسي والثوري"، أي مديح الأفكار والزعماء "الإبطال"، وهو ليس "مقتل" الغناء الوطني في مصر الناصرية وعراق صدام حسين فحسب، بل هو "مقتل" الغناء "الثوري" في عراق "الجبهة الوطنية" في سبعينات القرن الماضي والانفتاح السياسي على الشيوعيين، فهو غناء يمجد فكرة محددة: التفسير الشيوعي واليساري للوضع الإنساني، ويمجد قادة وزعماء، أي انه كما في غناء وطني كثير، يمجد نمطا فكريا يحتكر الحقيقة أو يسعى الى ذلك، وهو جوهر يعارض أية قيمة حقيقية للفن، بوصفه بحثا عن حرية لعقل الإنسان وعواطفه.إن تصوير المشتغلين في مجال العمل الفني "الملتزم" و"الأغنية السياسية" وكأنهم كانوا لوحدهم خارج مدارات العمل الفكري الحر، لهو خطأ فادح، فما انفكت الثقافة العربية تعميقا لأزمة حرية، فالشاعر الغنائي والملحن والمطرب ليسوا أحرارا، مثلما هو الجمهور ليس حرا، وافتقاد الحرية هذا يورث التكرار والعودة الى النمطية لأشكال من نتاج إنساني، هو الفن الذي بدا قرينا بأعقد المهمات الإنسانية: تجديد الوجدان والذاكرة والعقل.
وللأمانة فان بعض نتاج الغناء "الثوري" العراقي واللبناني والفلسطيني والسوري، وصل الى إعلاء قيم الحرية بعيدا عن ثنائية: احتلال- استقلال بل في دعوته الى حرية الإنسان واحترام وجوده، وفي ذلك صون للأوطان وحفظ لكرامتها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram