أربع فتيات جميلات يَقِفنَ على جانبي المدخل الرئيسي لمتحف درينته ، يُوَزِعنَ بعض المطبوعات والفولدرات الخاصة بمعرض الرسام الروسي كاسيمير ماليفيتش ( 1878- 1935 )، تُحييكَ واحدة مِنهُنَّ بلطف وتبتسم أخرى وهي تَمِدُّ لك مطبوعات المعرض الملونة . يالها من بداية مناسبة وجميلة هذا اليوم للتمتع برؤية أعمال هذا الفنان الذي غيَّر نظرتنا نحو الرسم وابتعد كثيراً ومنذ وقت بعيد ليجد طريقته الخاصة والطليعية نحو الحداثة والتي أثرت على القرن العشرين كله .
هكذا أدخل الى معرض هذا الرسام وعالمه الخاص ورؤيته الفريدة التي حركت الخطوط والألوان لتصنع لنا دهشة استمرت مئة سنة وما زالت تبهر الأبصار وتحرك المخيلة . ورغم أن ستين لوحة لهذا الرسام تشكل حدثاً ثقافياً كبيراً لكن الأهم من كل ذلك هو أن المتحف قد اختار أغلب الأعمال التشخيصية ليعرضها في هذا المعرض ، هذه الأعمال التي نرى من خلالها كيف طوَّر الفنان طريقته في الرسم حيث يتداخل التجريد مع التشخيص . أرى هنا وأشاهد بتمعن ورويّة كيف اختزل هذا الفنان المهم أشكاله حتى أصبحت مجموعة من المساحات والخطوط فقط ، كيف حوَّل شكل المرأة الى مثلثين وكيف جعل المنظر الطبيعي عبارة عن سحبات فرشاة أو خطوط عريضة ممتدة افقياً على قماشة الرسم ، هذه المساحات هي نفسها التي طوَّرها فيما بعد الفنان الأمريكي مارك روثكو حيث لوَّن لوحاته بلونين ممتدين بشكل أفقي .
في بداية المعرض أشاهد في زاوية مضيئة ( قناع الموت ) أو بورتريت الفنان الذي صنعه له أحد أصدقائه بعد موته بلحظات ، وبجانبه تظهر يده اليمنى التي صنعها صديقه بنفس الطريقة ، تلك اليد التي رسمت كل هذه المعجزات وقادتنا الى عالم جديد في الرسم وابتكار الأشكال . أتجول بين قاعات هذا المعرض الذي استعاره متحف درينته من متحف الهرميتاج في مدينة سانت بترسبرغ وأرى بوضوح التغيرات التي طرأت على أعمال الفنان ، كيف تحولت أعماله من التشخيص الى التجريد ، ثم كيف خرجت أقدامه من التجريد لتؤسس فناً تشخيصياً من نوع خاص ، كيف أعاد تشكيل أعماله التجريدية من جديد ليهبنا أشكالاً لفلاحات خرجن من صمت التجريد لينعكس عليهن سحر الحقول وضوء شمس الواقع ، كيف تحولت سكونية المشهد على يديه لتصبح إيماءة غنج غامضة .
كل لوحة في هذا المعرض كانت درساً لي في التعامل مع المساحات والخطوط ، وكل لون يضعه بدراية وحساسية وخبرة هو نافذة تطل على منبع وأساس وروح الرسم . تأملت اللوحات بصبر وهدوء ، لكني بعد أن انتهيت من ذلك شعرت برغبة رؤيتها من جديد وهذا بالنسبة لي هو شغف حقيقي بالفن المهم والمؤثر . أعطيت لنفسي استراحة قصيرة في مقهى المتحف الذي يقع في مقاطعة درينته ، شمال هولندا ، نصف ساعة احتسيت خلالها فنجان قهوة مع كعكة التفاح التي تشتهر بها مقاطعة الشمال وعدت بعد ذلك لأعيش من جديد وسط ألوان وأشكال ساحر الحداثة وأهم فنان روسي في النصف الأول من القرن العشرين .
شعرت بمتعة كبيرة وأنا أنتهي من رؤية لوحات المعرض بهدوء لأمدَّ أقدامي خارج المتحف وقد استقبلتني الفتيات الأربع على الباب من جديد لتسألني أحداهن "هل أعجبك المعرض ؟" فأجبتها بطريقة مسرحية "ما أعظم ماليفيتش ياعزيزتي وما أجمل المعرض الذي يبدأ بكُنَّ وينتهي بكُنَّ أيضاً".
كازيميرماليفيتش.. إيماءة غنج غامضة
[post-views]
نشر في: 26 ديسمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...