قد لا نبلغ البحر ولكن لن نعود إلى الوراء
2
تعلم ما قاله أندريه جيد بأنه يُعـِدّ "الف ليلة وليلة" من بين أعظم ثلاثة كتب في العالم. وقبل هذا وبعده ترددت أصداء الحكايا في آداب عالمنا، أفاقت شهرزاد من سباتها الدهري وطافت فوق القارات حاملة كنوز سردها الساحرة ،عبرت المحيط الى الأرجنتين وفاجأت كاتبا اسمه "خورخي لويس بورخس" وأقامت أعواما في مكتبته وغاصت في " كتاب الرمل" العجيب وتاهت بين صفحاته اللانهائية ثم لم يَرُقْ لها المقام هناك بالرغم من مخيلته الجبارة ، سئمت لغته المعقلنة وارتيابه وافتقاده إلى الرومانسية ،كان يقول لها "أنا رجل أدب وحروف حسب"، نسج حكاياتها بخيوط متشابكة غامضة وسجنها في مكتبته وهي امرأة جامحة تعشق اللهب وقوس قزح الرغبات وتهوى البدء والنهايات ولا تطيق التلبث في حالة راكدة ، حتى تناهى اليها أنك الشاب المدعو "غابرييل غارسيا ماركيز" في مدينة "اركاتاكا ماجدلينا" تنسج الحكايات من الجمر والأحلام والشهوات والسحالي والمطر ،فتسللت من بوينس ايريس الى "اركاتاكا" وقدمت لك هبة ثمينة من حكايات الجن والتحولات وغادرت متاهتك الى الأوروغواي والبرازيل وتشيلي ومازالت تجوب العالم وتنثر حكاياتها على الجزر والقارات.
أما نحن فقد ضاعت خطانا في تيه ماكوندو، كنتُ كلما قرأتُ فصلا في "مائة عام من العزلة" تتداخل أسماء أبطالك ويتفاقم الغموض والحيرة ،أمضي في المتاهة المحتشدة بالأموات والعشاق والغجر والسحرة ،فتختلط الأسماء وتتكرر كل جيل ،حينها عمدت إلى رسم شجرة نسب لعائلة بوينديا باللونين الأحمر والأسود لأستدل على سكان العزلة المنذورين للخلود، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أعترف فيها بأشجار النسب التي أعدها لعبة عنصرية ،غالبا ما يلفقها البشر ليقولوا : ها نحن الأكثر عراقة منكم أيها الناس، ولبثت شجرة أنساب عائلة بوينديا مخبوءة بين صفحات روايتك العظيمة " مائة عام من العزلة" إذا ما قدر لتلك النسخة أن تنجو من العدم الذي حاق بمنزلي حين اقتحمه جنود المارينز ثم الإرهابيون وبعض الشواذ من أبناء البلد وسرقوا ودمروا ما وقع تحت أيديهم وأهانوا الكتب ووطأوها بأحذيتهم ،تراءيت لي حينها واقفا وسط مأتم كلماتنا وحيواتنا المهدورة تسخر من فظاظتهم بصمتك الشاهق و تنير العتمة بمصباحين تحملهما بيديك ولما دنوت منك رأيتك تحمل روايتيك "خريف البطريارك" و "الحب في زمن الكوليرا " وهما تشعان نورا وسط الدخان والعتمة وسألتك أن تعلمني شيئا وأنا أخوض المحنة وحدي، التزمت الصمت بُرهة ثم ابتسمت وقلت لي بنبرتك الحكيمة الساخرة:
" لا أحد يستطيع تعليم الحياة للآخرين "
خذي الحياة وانجَيْ بنفسك وأحلامك ، ألا تذكرين كيف سار خوسيه اركاديو بوينديا عبر الجبال مع صحبه ونسائهم وأطفالهم وحيواناتهم هرباً من عار زواجه بابنة عمه أورسولا واحتمال إنجابهما أبناءً بذيول خنازير؟ أمضوا عامين في مسيرتهم المنهكة ،لكنهم فضلوا عدم العودة للماضي وساروا قدما لبلوغ البحر ولم ينقذهم سوى "حلم " فقد رأى خوسيه بوينديا في حلمه مدينة جدرانها من المرايا وعندما سأل عن اسمها قيل له انها "ماكوندو" فأعجبه الاسم وأقنع صحبه بأنهم مهما ساروا فلن يجدوا الغد ولا البحر فليؤسسوا مدينتهم هنا عند النهر.
- أجل أيها الساحر ماركيز ،قد لا نبلغ البحر ولكن لن نعود إلى الوراء.
قلت لي بعدها "إن قصص الحياة السعيدة لا تدفع بعالمنا الى الأمام بل إن ما يحرضه ويجدده وينقذه من التحلل والفناء تلك القصص والأحداث التي تقترن بالمآسي " فاحتضني محنتك وأحلامك والحكايا وحاولي صنع مدينتك المتخيلة.
يتبع