أعتقد جازماً بأن ممارسات وطقوس الشعوب الدينية والوطنية تتغير بحسب طبيعة حياتهم ووجودهم على الأرض، ويلعب الاقتصاد ومستوى الرفاه والوضع الاجتماعي والثقافة والوعي أدوارا مهمة، في وسائل وطرق تقديم الشعارات، مثلا، أو الممارسات التقليدية وحتى الأشد صرامة منها، وكل ما يتجاوز الديني والمقدس الى ما هو عادي وذي ارتباط يومي من شأنه الحاجة للديمومة والبقاء أو إنعاش الروح، سواء بالبهجة كالأعياد أو بالحزن كمناسبات تذكّر قتلى الحروب والملاحم وهكذا.
ليس العراق استثناءً بين شعوب الأرض، فهو يمتلك تأريخا قديما، متحركاً وعميقا في الذاكرة الإنسانية منذ الآلاف من السنوات، وتشير الدراسات إلى أن الإنسان المتحضر الأول عاش وسكن وعمّر في البلاد هذه، وادي الرافدين، قبل ان يكون في مكان آخر. لذا فالوقائع التاريخية على أرضه هي العلامات الدالة على قوته وحضوره. وبغض النظر عن منطق التاريخ التقليدي الذي يقول بان الأرض هذه(العراق) إنما هو صورة حديثة، لا وجود للإنسان فيها خارج حقبة الفتح العربي الاسلامي، سنة 14 للهجرة. فيما تؤكد العديد من الطقوس والشعائر والممارسات الفلكلورية، سواء في الفرح او الحزن عمق جذورها باتجاه الطقوس والممارسات التي كان يقوم بها العراقيون القدماء(سومر وبابل وآشور ونينوى وووو). وهذه آلهة الخصب والنماء عشتار، المعظّمة في بلاد بابل كلها ظلت تبكي البطل الأسطوري العظيم دموزي في محاريبها وعلى بوابات مداخلها وأرضها أزمنة وأزمنة.
لكن نواح عشتار على دموزي لم يكن ليضع حدا نهائيا للحياة فيها، او ليخلق برزخا قاتماً في الحياة العراقية القديمة، إنما كانت الاحتفالات بأعياد البذار والمطر والنماء ومواسم جني الغلات والانتصارات اكبر واخلد واعظم، وعلينا ان نتصور، ونحن نمر في شارع الموكب، ببابل القديمة وقد وقف كبار الآلهة ومعهم الكهنة والقادة العسكريون وابناء بابل وهم يرقصون ويشربون الانخاب ويرشون النبيذ على الارض كي تثمر وتخصب وتبتهج، فرحين بانتصارهم في الحياة، مقدسين القوة والوفاء والبطولات. ومثلهم كانت شعوب الارض، متمسكة بكل ما يديم حياتهم ويعظم من شان وجودهم على الأرض.
منذ عقد ويزيد والحياة في العراق تتجه متجهاً مخيفاً، هنالك تراجع في مواسم الفرح العراقي يقابله زحف مخيف، كاسر لمواسم الحزن. أكتب هذه، حيث لم يبق من دخول العام 2014 إلا فضلة قليلة من الساعات، فعّما قريب سيطل العام 2015. أكتب هذه، وانا اسمع لندب وحزن قاتل يصلني من حنجرة أدمنت النواح. لا، ليس في القضية من مجلس لعزاء أو لمناسبة دينية، ابداً، هنالك منزل أقصى القرية، يسكنه رجل مسكين، خائب لم يجن من فرح الأرض الوسيعة ابتسامة واحدة، أمعن في روحه ندبا وبكاء، شكواه أن لا أحد من بني جلدته دخل عليه، ولم ير مسؤولا في حزب قد طرق بابه، ولم تتلفت حكومة لما في مخزون داره من طعام، لم يخرج من قريته إلا لمستشفى او مقبرة، وكل ما في روحه من مباهج، انه تزوج ذات يوم وخلف بنين وبنات، ظل ممسكا بقارورة حزنه، مخلصا لها. سلواه دموعه، فهو لا يرى في صوت البلابل التي تحيطه بهجة ولا سرورا.
أسأل ما إذا كان بمقدورنا تغيير بوصلة الحزن في مدارات حياتنا باتجاهات اخر، أسأل ما إذا كان سيأتي اليوم الذي نفرح فيه ونحتفل راقصين، مبتهجين بمآثر أبطالنا الذين تقدموا الصفوف قتلى على طريق الحرية والخير والحياة، هم الذين سبقونا الى الجنان، وأضاءوا لنا بدمائهم طرق المجد والخلود. او هل سيأتي اليوم الذي نستبدل فيها أكف اللطم والجلد والضرب بالسلاسل والسيوف، بباقات الورد والعطور وتقديم الهدايا؟ ربما لن يأتي اليوم ذاك! لكن، ألا ترون معي أن ذلك أليق بصدورهم، اقرب لأرواحهم؟
بابل لم تكن حزينة على الدوام
[post-views]
نشر في: 27 ديسمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...