TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > المعمار إبراهيم علاوي: مآلات الجيل الثالث

المعمار إبراهيم علاوي: مآلات الجيل الثالث

نشر في: 2 يناير, 2015: 09:01 م

 غيّب الموت يوم الثلاثاء الموافق 23 كانون الأول 2014، المعمار العراقي إبراهيم علاوي (ولد 1936): أحد معماريّي "الجيل الثالث"، كما دعوته ودعوت زملاء له في دراسة مطولة عن نتاج ذلك الجيل المعماري، الذي لم يأخذ حقه من الدرس والمتابعة. إنه الجيل الذي

 غيّب الموت يوم الثلاثاء الموافق 23 كانون الأول 2014، المعمار العراقي إبراهيم علاوي (ولد 1936): أحد معماريّي "الجيل الثالث"، كما دعوته ودعوت زملاء له في دراسة مطولة عن نتاج ذلك الجيل المعماري، الذي لم يأخذ حقه من الدرس والمتابعة. إنه الجيل الذي ولد تحت "نجمة غير سعيدة"، كما يقال، وتحمل، ببسالة وجلد نادرين، تبعات ذلك "الميلاد" النحس، الذي خلقته ظروف <الزمان والمكان>! 

والجيل الثالث الذي أعنيه، هو الجيل الذي انتمى إبراهيم علاوي له، مثلما انتمت إليه كوكبة من المعماريين المجتهدين أمثال: عصام غيدان، وأنيس عجينة ومعاذ الآلوسي وطارق الجدة وغسان رؤوف وفؤاد عثمان وعدنان أمين زكي وعبد الستار العياش وهنري زفوبودا ودريد الياور وعادل صالح زكي وصلاح الأحمدي وباسل جهاد حسن وجورج أنطوان جورج وعبد السلام فرمان وكمال تاج الدين وغيرهم من الأسماء التي شكلت بشخصياتها اللامعة "جسم" الجيل الثالث ورسخت من حضوره بالمشهد. وهذا الجيل، الذي يرادف تسميته مع ذات التسمية لجيل مهم وأساسي في المشهد المعماري العالمي، سبق أن أشار إلى حضوره الناقد المعماري المعروف "سيغفريد غيديون" Siegfried Giedion، هو الذي اتسمت عمارته باختلافات جوهرية عن سابقيه، نابعة أساسا من تداعيات التطور الحاصل في تكنولوجيا البناء وتغيير الذائقة الجمالية وظهور قضايا مهنية جديدة تطلبت حلولا معمارية غير مسبوقة. ومن ضمن المفاهيم التي تناولها ذلك "الجيل الثالث" بالتقصي والبحث والممارسة، كما رصدها الناقد العالمي هي التي ".. انطوت على إدراك عميق لكن العلاقات الجوانية الرابطة لما بين العصور؛ التي أمّن حضورها في الخطاب المهني، التطور المستمر الذي صاحب مسار العمارة" كما جاء في كتابه "المكان، الزمان، والعمارة" الذي اعتبر نصه من النصوص الكلاسيكية التي تعاطت مع منجز عمارة الحداثة.
ولئن اتسم منجز الجيل الثالث في مستواه العالمي على بلوغ تخوم إبداعية لم تكن معروفة أو متداولة كثيرا في الخطاب المعماري يومذاك، كما يذكر ذلك غيديون؛ فان ذلك المنجز قد تحقق في أجواء ثقافية معاضدة للإبداع ، وبوجود فرص وإمكانات يسّر حضورهما حُسن سير العملية الإبداعية إياها. في حين كتُب على ممثلي "الجيل الثالث" العراقي أن يعملوا وينتجوا في "فضاء" أحداث متقلبة جذرياً في مرجعياتها القيمية، وفي ظروف مستجدة ودائما طارئة، معظمها غير ملائمة إطلاقاً لتطلعاتهم وعملهم. وهذه الأحداث ".. بدأتها ثورة تموز 1958 ، وما أفرزته من نظام الحكم الفردي وما صاحبه من هشاشة ستراتيجيات منطلقاتها العمرانية المتسمة بغموض الأهداف في أحيان، وغيابها التام في أحيان أخرى. لكن ما أحدثه انقلابيو 8 شباط 1963 من "أجواء" حافلة بالرعب والقسوة غير المسبوقة، فاق كل ما مرّ سابقاً من "أحداث" مدمرة على العراق والعراقيين ، عاملة عملها التخريبي في وأد وإلغاء أي فرصة محتملة للإبداع الحقيقي، ومبعثرة، في الوقت نفسه، آمال " الجيل الثالث" في محاولته لجهة تحقيق أهداف مهنية جادة. ذلك لأن القسوة المنفلتة والفظاعات التي أوقعت الفزع بالنفوس التي تبنى سياستها "الشباطيون" وتم تكريس "ثقافتها" بقوة السلاح، طالت الجميع، وبالطبع طالت المعماريين ولاسيما "الجيل الثالث" منهم. فقد وجد كثرُ نفسه أمام محن الاعتقال والتشريد والطرد العشوائي من وظائفهم أو في أحسن الأحوال تضييق الخناق على البقية الباقية منهم. وما أرساه "الشباطيون" من ممارسات تعسفية وقسوة مفرطة، أفضت ليس فقط إلى ترويع المثقفين وتكميم أفواههم، وإنما كرست "بمنظومتها" الجديدة قيماَ منحرفة لم تراعِ كثير أهمية للنزاهة أو الخبرة أو الكفاءة أو الاختصاص لدى الآخرين. إن "دورهم" في هذا المعنى (مع ممارسات "ورثتهم" في انقلاب سنة 1968)، لا يختلف كثيرا عن دور محاكم التفتيش الكنسية بالعصور الوسطى؛ عندما "زرعت" الأخيرة الخوف والذعر لدى ممثلي الطبقة المتنورة الإيطالية، وأرغمتهم عن طريق الإرهاب والوعيد على الصمت ونبذ الأفكار الطليعية؛ ما جعل من إيطاليا المرعوبة‘ وهي المولدة والحاضنة الرئيسية لأفكار عصر النهضة، أن تعيش قروناً عديدة في قطيعة تامة مع تلك الأفكار التي ابتدعتها هي نفسها، وأن " تسكن" في ظلام ابستيمولوجي دامس ومريض، لم تبرؤ منه إلا مؤخراً. كما كتبت، سابقاً، في تلك الدراسة إياها. 
في مثل "زمان" تلك الأجواء غير المواتية للعمل الإبداعي، التي انطوت عليها خصوصية "المكان" العراقي، تم تغييب جيل كامل من الذاكرة المعمارية. إذاً تبدو تلك الأسماء التي ذكرناها تواً غائبة على وقع مسامع المثقفين العراقيين وعلى مسامع المعماريين منهم أيضاً (عدا اسم معاذ الآلوسي، الذي ظل حاضرا بقوة في المشهد المعماري المحلي والإقليمي، والدراسة التي أشرنا إليها قبل قليل كانت مكرسة لمنتجه المعماري، ومنها نقتطع بعض نصوصها لهذه المقالة). فماكنة التغييب، "اشتغلت" بكفاءة ما بعدها كفاءة في إخفاء تلك الأسماء وأقصتهم عن الذاكرة المعمارية. إنه غياب ظالم، كان يمكن له أن يثري المشهد المعماري المحلي بإنجازات حقيقية، إنجازات ربما غيرت كثراً من معالم البيئة المبنية المحلية (وحتى الإقليمية) المتعطشة للتجديد، والتواقة لتنفيذ طروحاتهم وممارساتهم المهنية عالية النوعية. وهذا التغييب اتخذ صيغاً متنوعة، إذ تم التضييق على بعضهم أو إجبارهم على عدم المشاركة الجادة في العمل المعماري، مما حدا بالبعض منهم إلى مغادرة البلد، أو حتى ترك المهنة المعمارية للتفرغ لمقارعة الظلم الحاصل على وطنهم وعليهم شخصيا كممثلين أصلاء لشعوبهم في التوق للعيش الكريم . أحد أولئك كان إبراهيم علاوي، الذي كرس جل حياته للشأن السياسي مناضلا لرؤية بلده بلدا متقدما وحضاريا تسود فيه قيم المدينية والتسامح. 
عندما يستذكر المرء، الآن، مسيرة المعمار إبراهيم علاوي، لا يسعه ألا أن يحترم قراراته، القرارات التي كرس نشاطه وحياته لها وسعى وراء تحقيقها. بيد أن الأمر الأكيد، هو أن العمارة العراقية خسرت الكثير من ذخيرة إبداعاتها (كما خسرت ناتج الإبداع المهني للكثير من معماريي الجيل الثالث)، نتيجة تلك القرارات التي أجبروا على اتخاذها. فالوقت المتاح لهم وله للعمل المهني لم يكن متسعاً بما فيه الكفاية، وبالتالي لم تكن إبداعاتهم مؤثرة أو معروفة على نطاق واسع. على أن ما اجترحه إبراهيم علاوي وهو مدار اهتمام مقالنا، على شحه، يعكس بعضاً من تلك الإمكانات التي كان يمكن لها أن تثري المشهد المعماري المحلي بتصاميم لافته. ليس المكان، هنا مواتياً كثيرا، بحكم طبيعة المقال، ان نشير إلى جميع المباني التي صممها إبراهيم علاوي، لكن إحداها، التي أقدّر، شخصيا، عمارتها عالياً جديرة بالذكر هنا لسببين. أولهما، لناحية كونها تمثل بصدق نوعية مقاربة العمارة التي طبعت منتج إبراهيم علاوي؛ والسبب الآخر، لجهة المصير الفاجع والمأساوي الذي لحق بهذا المبنى. إذ تم، مع الأسف، إزالته بالكامل! وبقيت منه صور، قُدرّ لي التقاطها شخصيا له، بصورة متأخرة، أثناء التهديم والإزالة. نحن نتحدث عن "دارة" سكنية في حيّ المنصور ببغداد، صممها إبراهيم علاوي في النصف الأول من عقد الستينات.
تعكس عمارة الدارة، من خلال لغتها التصميمية، كثيراً من العناصر والسمات التي كانت "سائدة" آنذاك: التوق إلى توظيف رموز اللغة المعمارية الحداثية والطليعية في المنتج التصميمي، ولاسيما في أبنية السكن. وقد كان هذا النوع من المباني في الممارسة العراقية، (وهذه مفارقة تصميمية!)، الأكثر تقبلاً للنزعات الجديدة، رغم ما يتسم به هذا المجال من "تابلوجية" أقل ما يقال عنها بأنها محافظة. بيد أن الممارسة المعمارية السكنية المحلية، شغلت بالمستجد وغير المألوف، جاعلة من نماذجها المعمارية ميدانا خصبا للتجريب الحداثي. وهو ما انعكس بوضوح على الصياغات التكونية للدارة التي اتسمت على سيادة وسيطرة الخطوط الأفقية للتكوين المبتدع، وكذلك التطليعات الأفقية الجريئة التي تؤكد حضور تلك الأفقية التكوينية. وهذا المزاج التصميمي الذي نراه في "دارة المنصور"، يستحضر ما كان مألوفا لدى مقاربة "ميس فان دير روّ": أبرز معماريي الحداثة العالميين وأكثرهم تأثيرا. لم ينس المعمار أن يكون للفناء الوسطي (المفردة التكوينية الشائعة في العمارة التقليدية) حضور واضح في التكوين، مما جعل من عمارة الدارة إياها أن تكون شاهداً لإظهار مقدرة المعمار في تأويل عناصر العمارة المحلية وتوظيفها في تصميم حداثي. استخدم المعمار في مبناه الطابوق السمنتي الملون، ذا الأبعاد المميزة، الذي ظهر فجأة وقتذاك، وحاز إعجاب المصممين العراقيين. حرص إبراهيم علاوي على أن تكون ثمة مداخلة تشكيلية في التكوين المبتدع للدارة. وهو ما تحقق فعلاً في فضاء الفناء الوسطي من وجود "جداريتين" خزفيتين، لم أهتدِ إلى اسم فنانها، وباتت الآن في خبايا المجهول، مثلما أمست الدار ذاتها في طي النسيان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram