TOP

جريدة المدى > عام > عبده وازن في "الأيام ليست لنودّعها": رقّة نادرة في أزمنة القسوة المطلقة

عبده وازن في "الأيام ليست لنودّعها": رقّة نادرة في أزمنة القسوة المطلقة

نشر في: 4 يناير, 2015: 09:01 م

في ديوان الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن الصادر حديثاً عن دار "الجمل"، والذي حمل عنوان "الأيام ليست لنودّعها"، هزة عميقة للمفاهيم المتداولة عن الشعر ومقارباتها الإنسانية والفكرية المباشرة. انه نوع من العودة الى الينابيع الأولى للشعر بوصفها تحريضا ع

في ديوان الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن الصادر حديثاً عن دار "الجمل"، والذي حمل عنوان "الأيام ليست لنودّعها"، هزة عميقة للمفاهيم المتداولة عن الشعر ومقارباتها الإنسانية والفكرية المباشرة. انه نوع من العودة الى الينابيع الأولى للشعر بوصفها تحريضا على الجمال والاحتفاء الكلي بمعالم الحياة الخلاقة.

 

ومثل هذه الهزة للسائد عن الشعر، لا تتشكل عبر العنوان " الأيام ليست لنودّعها" وحسب، على أهميته، وإنما في المتن الذي تناغمت فيه النصوص (جلّها قصير)، فهو متن "الحياة السرية للنباتات"، حين نستعير هنا عنوان أسطوانة المغني والموسيقي الأميركي ستيفي وندر، للإشارة الى الاحتفاء بالخصب والنماء و"أسرار" الحياة التي تزداد سحرا وغموضا حيال كل هذا "الوضوح" المطلق للقسوة والعنف في أيامنا السائدة: "لا أسأمك أيتها الشجرة/ مهما طال جلوسي تحت أغصانك/ الروح تبحث عن روح لها شقيقة/ تذكرها جيدا/ وان كانت تجهلها/ هل نسيت أيتها الشجرة/ أننا كنا توأمين/ في ابد نسيناه هناك/ خلف سفوح يقظتنا.
وقد يكون هذا المعنى (الاحتفاء بالخصب والنماء) حاضرا على امتداد نصوص الديوان، إلا انه يشع بكثافة في نص " ورود وبنادق": الزوار الذين طرقوا الباب/ حملوا إلينا ورودا وبنادق صدئة/ هم يعلمون ان الذئاب/ تطوف كل ليلة من حولنا/ نحن الذين لا حرّاس أمام أبوابنا/ نحن الذين نخشى وعورة الظلام". المشهد في هذا المقطع من النص تمهيد لا يحتاج كثير جهد من اجل إحالته الى بواعثه الأساسية: البنادق/ الذئاب/ الظلام، فيما ردعها يتولاه المقطع الثاني من النص: " اما الورود/ فلنضعها على الطاولة/ عساها بحمرتها/ ترد عنا وحشة عزلتنا/ عسى عطرها يطرد الأشباح/ من عيوننا المقفرة"، عبر الورود وعطرها، القادرة على دحض الفزع والظلام والذئاب والأشباح.
ليس سرا أنها نوع من العودة الى الرومانطيقية، لكنها ليست تلك الفجة المبتذلة، إنها المشغولة بروح المتصوف المشغول بالأسئلة العميقة عن الوجود لكن دون انقطاع عن الحياة ومساراتها: اذا توارت الخطى/ المرسومة أمامنا على التراب/ يمكننا ان نمشي في الهواء/ كما يفعل الملائكة/ عندما يفقدون حصى الطريق".
وإذ يؤكد صاحب ديوان " الغابة المقفلة"، ان الينبوع الصافي للشعر، ما هو إلا تنقيته ايضا من الشروح والإحالات والدلالات المباشرة، فانه ايضا، يؤكد ان "الصفاء" في لغة الشعر ليس بالضرورة حذلقة الألفاظ والاشتقاقات الغربية المنغلقة الدلالة، ولا بالصورة الشعرية المستغرقة في غرائبية مفتعلة/ ولنأخذ هنا ما كتبه في نص "أيام" الذي استعار من احد سطوره، عنوان ديوانه: "الأيام ليست لنودّعها/ ليست لنتحسر عليها/ الأيام لننظر اليها/ تسقط مثل أوراق شجرة/ ثم تتطاير في هواء/ لم يحن هبوبه"، لنجد انه لا استعراضات، لا لغة مقعّرة، وإنما مفردات بسيطة مندّاة بماء الينبوع الاول الرقيق للشعر، حد ان نسيجا كالذي جاء عليه المقطع يحيل القارئ الى نوع من التبادل الحسي مع الشاعر، حيث يتلمس من الكلمات، الهواء الذي يحمل بخفته أوراق الأيام المتساقطة، فيصل الى المعنى في نقد الزمن دون غلاظة مفردات ولا ظلمة أحاسيس عن عدم جدوى الأيام، وطيرانها كما أوراق شجر.
وبحسب المراجعات السائدة في نقدنا الثقافي العربي، وحيال نسق سائد من القسوة بات حتى أهل الفكر جزءا فاعلا منه وفيه، فان هناك من قد يقول " هذا شعر لا روح عربية فيه، هو اقرب الى المترجم"، لا سيما اذا عرف صاحب قول كهذا ان عبده وازن، احد اكثر شعراء جيل الثمانينات العربي ممن درسوا الشعر الفرنسي وقاربوا أشكاله وأساليبه قديما وحديثا، وحتى انه في ديوانه قارب جوانية تحيل الى شعراء الغرب "كأس رامبو" مثلا، وشعر الشاعر "هايكو" لكن القراءة المنصفة، تجرد هذا القول من تعسفه، ففضلا عن عربية طافحة بالروح والحرارة: لم أقلّ ان سماء لا تكفيها نجمة/ ان قبّرة لا يكفيها غصن/ ان شجرة لا يكفيها برق"، ثمة الإيقاع الذي تنتظم فيه المفردات والمعاني والصور في بلاغة نادرة التناسق، وهو امر من المستحيل تحققه في شعر منقول الى العربية، مهما بلغت مهارة المترجم ومعرفته اللغوية من شأو وعلو.
وفي مراجعتي لديوان " أبواب النوم" لعبده وازن، كتبت عن نصوص تعنى بتصوير الخفي من ملامح الموجودات والكائنات والأشياء ولكنها ليست الغاطسة في عمق الخفاء وتحتاج لنفس لا تخدعها الظواهر الماثلة للعين كي تكتشف وجودها "السري" وتجد متعتها الفنية في ذلك الاكتشاف، إنه يذهب الى إقامة قراءة "شخصية" لمعالم حياتية تتشكل أمامه، يقيم طريقة تعاطي تعتمد مرجعية ذاتية دائما، جلّها إظهار الأشياء وهي تقترب من غياب الملامح، او هي مضببة نوعا ما، هي حالة الاقتراب من النوم، التي تهدأ فيها سطوة الوضوح لتبرز أشياء أقرب للقراءة الروحية لا تلك التي تتمظهر بملامحها الثابتة فيزيائيا، فتتحول "الغيمة" الى "ملاك" و "السماء" الى "عطر قديم" و "الزهرة" الى "جرح غائر" و "العصفور" الى "سهم الصباح" و "اليمامة" الى "عشبة الأرض الأولى" والى غير ذلك من التقابلات، التي لو استرسلنا في ذكرها لوصلنا الى نتيجة مفادها تحول الفعل الشعري عند عبده وازن الى نوع من تغييب الحضور للخارج مقابل الاحتفال بالجوّاني حتى وإن بدا مرآة عاكسة للخارج، كونه – أي الخارج – منظورا اليه من منظور شخصي تماما. وفي ديوانه الأحدث
يصل وازن، ذلك الأثر الذي كرسه في ديوانه السابق، لكن بمزيد من حكمة أنضجتها خبرات العيش والتبصر، واكثر انفتاحا على الحياة: "هنا ، على تخوم فجر يطلع من أرجاء العتم. الأفكار نفسها تسبقني فأسقط في حفرتها".
وفي حين تتكثف تلك الحكمة في النصوص التي تعتمد السطور القصيرة، إلا أنها تميل الى البنية السردية في النصوص التي تعتمد شكلا اقرب الى التدوير، وهو ما أراه شكلا وفق الشاعر كثيرا في مقاربته، كما في نص " الصيادون": "إننا لسنا ذئابا او هررة، نحن نكتفي بالقليل من النسيم الذي يلفح وجوهنا، وشعاع القمر قد يكفينا أياما بفضته التي ننشقها. نحن صيادي اللامرئي نعد نفسنا كل فجر بخواتم من نور".
اللظى الذي تأتي الأيام محمولة على قسوته، يقاربه الشاعر عبده وازن في نص " كأنهم نائمون" يهديه الى أطفال سوريا وفلسطين، لكنه ، برغم الإحالات الواقعية المباشرة التي يدل عليها الإهداء، ظل نصا من نسيج الديوان الأصلي، نسيج التناغم بين المفردات والدلالات والإيقاع: "الموت خطفهم في منتصف ابتسامتهم/ لم يشعروا به/ هم الأخف من نسيم حديقة". وأحسب ان هذا النص ليبدو درسا بالغ الأهمية في مقاربة الوقائع التاريخية والأحداث الجسام بلغة الشعر وروحه الفذة، وهو ما عناه جيدا ديوان "الأيام ليست لنودّعها" وهو السابع بعد "الغابة المقفلة"، "سبب آخر لليل"، "أبواب النوم"، "سراج الفتنة"، "نار العودة" و "حياة معطلة".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

مشاركة 25 ألف مركبة خاصة و350 باصاً في نقل الزائرين

660 ألف طفل في قطاع غزة لا يزالون خارج المدارس

وزير الخارجية: القوات الأمريكية ستبقى في العراق بظل إدارة ترامب الجديدة

إيران: استقالة المسؤولين الإسرائيليين دليل على هزيمتهم

اسعار النفط العراقي تهوي لما دون 80 دولارا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram