TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > (المعرفة) أمر مختلف عن (استخدام المعرفة)

(المعرفة) أمر مختلف عن (استخدام المعرفة)

نشر في: 9 يناير, 2015: 09:01 م

كتبتُ مؤخراً، في إحدى وسائط التواصل الاجتماعيّ، كلمة سريعة بشأن الزعم القائل إن علم الأنثروبولوجيا موصول بـ (خبث) الاستشراق، وأودّ العودة إلى الموضوع للجمهور العريض من زاوية أخرى، هي أن (المعرفة) أمر مختلف عن (استخدام المعرفة)، سواءً تعلق الأمر بالانثروبولوجيا أو الاستشراق أو علم الوراثة والجينات. لن أعود إلى فوكو الذي بات معروفاً تحليله عن المعرفة والسلطة، لأن أستاذاً جامعياً بسيطاً يمكن أن يعرف غموض ودهاء العلاقة بين معرفته المفترَضة والسلطة الممنوحة له على أساسها والتي يمكن أن يُحسن أو يسيء استخدامها.
الأمر أكثر خطورة عندما يتعلق بالأنثروبولوجيا التي لو انحنى عليها رجل مثل كلود ليفي شتراوس لخرج بعمل موسوعيّ عميق يتطلبه هذا العلم نفسه، من دراسة أنظمة القرابة مروراً بتاريخ وتطور البشرية، وليس انتهاءً بالأنساق القانونية والدينية والجمالية ناهيك عن السياقات الاقتصادية المتراكبة. إن إساءة استخدام هذا العلم عينه في الأنظمة المهيمنة اليوم على العالم ليست مبررا كافياً لنفيه عن المعرفة. نعرف أن جميع مراكز البحث العلميّ الأوروبية والأميركية، في العلوم الاجتماعية والنفسية واللسانيات والتاريخ والجغرافيا وغيرها، قد استُخدمتْ دائما وما زالت تُستخدَم لصالح سياسات الدول التي تموّلها بسخاء كامل، بغض النظر عن مواقف الباحثين والمتخصصين الذين يشتغلون بها. وبعضهم يمتلك مواقف رفيعة ونبيلة من قضايا الحق والعدالة في العالم.
أما الاستشراق الذي صار عصا موسى السحرية في نقد الغرب الاستعماريّ لدينا، ونشاطر غالبية مما قاله إدوارد سعيد بشأنه، فليس بمنأى عن (إساءة الاستخدام) للمعرفة، وربما منذ بداياته الأولى المرتكزة إلى نظرة دونية لمن لا يقع في المركزية الأوربية. وهذا المصطلح الأخير هو ابتداع أوروبيّ متأخر في نقد نفسه، وليس من إبداعات المتولهين باستخدامه في العالم العربيّ. بعض النقود التي وُجهت لإدوارد سعيد كانت ترتكز على أن الهوى الذي كان يقود بعض الاستشراق لم يكن هوى استعمارياً على الدوام، بل هو وَلَهٌ أوربي بالشرق ذو أصول قديمة وهو تَولّهٌ ذو نزعات رومانسية خالصة أحياناً.
منذ أن ضربت عاصفة كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) العالم، صار هناك ميل عام في أوربا وأميركا إلى عدم استخدام المصطلح وتحاشيه قدر الإمكان، واستخدام مفردة (الاستعراب) و(المستعربين) بدلاً عنه. ومن هنا ظهر لدينا مصطلح (الاستغراب) بصفته، كالعادة، ردَّ فعلٍ لكن تقليدا لمصطلح الاستشراق واستلهاماً، بالمقلوب، له.
كيف تغيب هذه المعطيات عن مثقفين عرب كثر، فيروحون يخلطون بين علم الانثروبولوجيا وإعادة استخدامه في الحروب الأميركية في أفغانستان وغيرها من البلدان، وبين منجزات الاستشراق الكبيرة وتوظيفه لصالح الدوائر الإمبريالية في القرن التاسع عشر خاصة؟.
الجواب على ذلك قد ينبثق من اهتماماتنا، نحن، الآنية والمستعجلة بالعلوم الإنسانية التي طالما بخسناها حقها في القرن العشرين مقارنةَ بالعلوم الصرف، إضافة إلى ريبتنا المضمرة من (استخدامات) العلوم الإنسانية ولغويات لساننا العربيّ حالما يستخدمها طرف آخر لأغراضه، فيذهب البعض إلى نفي تلك العلوم من حقل المعرفة البشرية (الأنثروبولوجيا مثال قويّ) أو التموقع في خندق الريبة منها. هذا الموقف أيديولوجي بأسوأ ما في الكلمة من ظلال، وهو موقف ليس نقدياً ولا جدلياً.
ما لا يجوز أن يُنْكر في ذلك كله، في نهاية المطاف، أن الغرب ليس متماثلاً، كما أننا، نحن العرب والمسلمين، لسنا متماثلين، حتى لو صدق الحديث عن ظواهر عامة هنا وهناك، ألا يستخدم بعض مثقفينا ويسيئوا استخدام السلطة المعنوية الممنوحة لهم؟. ألا يستخدم البعض الآخر مصطلحات الماركسية والوجود والعدم والدين الإسلاميّ والقومية العربية بطريقتهم الخاصة، لصالح سياسات وفضائيات ومعاهد ذات توجهات بعينها؟.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram