شكلت المرأة هاجسا واعيا، وملمحا إنسانيا بالغ الحضور والأثر في عموم وخصوصيات تجارب الفنان التشكيلي الكبير(فاروق حسن)، فقد أترع من زهو احتفاله الروحي بها حقول لوحاته وعمد منها ازدهارات ألوانه الغارقة في ينابيع ذلك الوجود الحي، والنابض عبر و
شكلت المرأة هاجسا واعيا، وملمحا إنسانيا بالغ الحضور والأثر في عموم وخصوصيات تجارب الفنان التشكيلي الكبير(فاروق حسن)، فقد أترع من زهو احتفاله الروحي بها حقول لوحاته وعمد منها ازدهارات ألوانه الغارقة في ينابيع ذلك الوجود الحي، والنابض عبر وجوه مترعة بالنور، بما يزيد ويغري من قيمة بهاء اللوحة، وثراء هيبة ذلك الوجود الخصب لكائن طالما تباهت به نسقا وتعبيرا وقصداً لاختصار مكامن الجمال بأسره، فكما لو ان الجمال هو المرأة بعينه، وإلا ما الذي دعا شاعرا مثل (بايرون) لأن يقول بلوعة كاتمة؛(لو كان للنساء فم واحد ... لقبلته وارتحت.)!
تجلت أعمال (فاروق حسن)عبر ملاك معرضه الأخير، والذي أقامه منتصف تموز/2014 في المجمع الفني في (مدكونتي- بورتلاند/ولاية أوريغون الأميركية) ضم أكثر من عشرين عملا بقياسات وأبعاد مختلفة- بضخ معادلاته الاستشرافية مصحوبة بنصوع وعذوبة اتساع ساحر وشفيف لمعنى وثوب اللون ودرجات تسيده على هذا النحو المتعافي في تمهيد سبل الوصول - قصدا تحليليا- الى متعة الإحساس بتنامي قوة الصراع الدرامي الذي يسعى (فاروق) الى مد لوحاته بهذا النسغ المتصاعد في مختلف تلك التجليات الروحية التي ما برح يسطرها، بوثوق تام، وبدراية خبرة باذخة المحتوى والمقاصد التفصيلية في معمار تلك التوريدات الضمنية التي تخدم بالتالي،فخامة حضور شخوصه النسائية على قدر من الرسوخ والسيطرة التي تروي بساتين وحقول مخلوقاته الماسية،جراء فرط صدق تماثله حيال الموضوع الذي يسعى لأن يتقصد تحريك بعض مشاهده استكمالا بصريا لمسلسل شاخص على تتابع شريط تلك اللوحات الماثلة بنسق علاقات وسحر تواشجات نفسية- قدسية تزيد من رصانة المشهد،وقوة تأثيره براعة اللون ومديات استنطاقه سواء أكان(زيت ... أكريليك... باستيل)أم جملة من استخداماته لمواد يقوم بتصنيعها حفولا بملمس (تكسجر)خاص يتيح لمعزوفات اللونية وموسيقاه الروحية،قطف تلك اللذة القصية التي ينشدها أي فنان حقيقي وكبير في تتبع حشود مشاعره،وجلال تقواه في محراب الفن،كما هو حاصل في مناخات وفضاءات تنوعات تجارب
(فاروق حسن تولد البصرة-1937) حين تحيي روح معطيات وعي في مسارب الرسم احترافا والموسيقى تنوعا واهتماما يجانب ويجاذب عمق مساعيه التشكيلية،وهي تعود الى نحو أكثر من نصف قرن من محافل الاعتناء بلوامع الإبداع ورواسم انتصاره الدائم للجمال وجلال الحياة،متكللا ومتمثلا بالمرأة الملهمة التي ينتهل من روافدها (فاروق حسن) هذا الانزياح والمثول في تفرد تجربته ونبوغها،حتى في أقصى حدود اقترابها من خواص وملامح مدرسة بغداد للفن الحديث التي أرسى قواعدها الراحل الكبير(جواد سليم) بداية خمسينات القرن الفائت.
تقاوم رغبات (فاروق) هموم استمالاته نحو نحت وجوه نسائه بلا ملامح،وبما يعطي للمشاهد لإعماله فرص أوسع للتملي والتأويل،ومحو خط الفصل ما بين ذكرياته هو كفنان مثقل بسيل صور لوجوه ومواضي لشخصيات مرت عليه وحفرت وجودها فيه،وما بين ذكريات الرائي-المشاهد كعنصر متمم في استمرار معادلة التبادل الذهني و ألبوم التصورات التي ستنتزعها تلك الوجوه بغياب محتمل لتفاصيلها المدهشة في تقريب ملامح وأـشكال من نريد وضعها،نحن من تورط بحب نساء الفنان،ساعة يتركهن حالمات،مستلقيات،ساهيات بفضح مكامن جمالهن الشرقي الباذخ الفتنة التي تكاد أن تصل ضفاف وحدود الإغراء والإثارة الشعرية والشعورية،ساعة نصغي لهمس حكايا و ابتهالات لونية تناغي طهارة روح اللون وتذكي درجات الإعجاب حد الشرود،والإنكفاء على متابعة خيوط بواقي موجودات المشهد الذي يتعمد فيه(فاروق) الى بث اختزالاته التجريدية الحية بهبوب نبضها من رياح محيط وهالات وجوه تلك النساء فيما تفيض توقا روح الفنان الى نسق الاعتناء برسم (اكسسوارات) تداني جمال وفتنة وجوهه،ربما تعويضا لما يحاول تغيبه من تفاصيل،قد تساوقت لتنال متعة افتضاح لغة أخرى،تزهو لتفوق أبجديات لغة تواصله مع ثوابت فهمه الواقعي والحتمي في مجال بلاغة تمكنه من قواعد وعناصر ونواتج الرسم الأكاديمي الذي برع فيه أبان دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد ستينات القرن الماضي،ومن ثم إكمال دراسته العليا في روما- أيطاليا في ثمانينات ذلك القرن،أيضا مقرونا بقدرات تحويله الإجرائية نتائج فتوحاته الواقعية،الى مراس تحديثي شديد الولع والصلة بفعل وأثر وتطويع الموروث البصري صوب آفاق معاصرة،و تدانيه مع تخوم ما وتصلت إليه الحداثة،دون أدنى تفريط بواجب الاحتفاظ بخصوصية المحلية والوطنية،التي يصعب على فنان محترف ومبتكر مثل (فاروق حسن) أن يغادرها أو يتخلى عنها هكذا دون مساس الظفر بخواص وجمال بيئته(البصراوية) وتطلعاته العالمية، التي أوصلته الى ما هو عليه من ثبات ورسوخ وشهرة وتواصل،وما نواتج وخلاصات معرضه الأخير الذي أقامه على قاعة القرية(village Callery)في ذلك المجمع الفني الذي أشرنا اليه سلفا،والذي حصد إعجابا وثناء عالميا من لدن العديد من النقاد الأوروبيين و الأميركان، إلا وتدا قويا في أوتاد خيمة تجارب هذا الفنان الكبير.
و لمن ينوي أن يطيل في زوايا النظر والتأمل في مفاصل تجرية(فاروق حسن)،ليس حصرا بالرسم ،بل صعودا صوب مديات ومحايثات أبعد وأعم، كالمسرح- مثلا- إذ أتحف هذا المجال بتصميم ديكورات عدد كبير من المسرحيات العراقية ونيل الجوائز عن تلك الإجراءات الجمالية والتعبيرية المجسدة عمقا وأثرا،والتي أثرت من نواتج ما حملت به تجاربه الإبداعية المتواثبة بصدق صداها وعمق تأثيرها وقدرة استنطاق خطواتها على نحو واثق وأكيد،وبما يجعل منها علامات فارقة في مفاخر منجزات التشكيل في العراق،ومثابة اقتران طوعي لمحصلات جمالية وفكرية وفلسفية نابعة من وجدان ووعاء عاطفي وموهبة راحت تنصاع لمقومات الدراسة والتجريب ونالت من الإشادة والرصد والترويج والاعتراف المركز بها مما جعلها نقطة مشعة في ثنايا الكثير من التجارب المهمة في هذا المجال الحيوي،الى جانب ذلك النهج والسياق الداعم لأهمية تأكيدات معطيات(فاروق) في رسم مياسم نهجه الفني،ثقة وتصديرا لمعاني هيامه بهذا الانهماك والهدوء البليغ الذي نتحسسه،ونتلمسه يسير بخطى واثقة ومحسوبة صوب مباهج أحساس رهيف يداني مهارة البوح والتصريح الرصين في تكثيف نكهة استلهامه للأساطير وتجسيد الحكايا والملاحم الشعرية في متون أعمال مبهرة قادرة -وبحس استثنائي-على ترجمة وتوريد تلك الاستلهام بموروثها التاريخي الملحمي والشعبي،عبر مسارب استعمالات وجدانية طافحة بغنائيات مبتهجة وغارقة في لجج بحث وانتقادات لمشاهد ووضعيات تشي بنوع بارع من اكتشافات ضمنية تحادد روح الجمال النوعي الخالي تماما من أي تلويح أو تحريك للغرائز الطائشة،فضلا عن عذوبة فائقة تسرح متمتعة بها أعمال (فاروق حسن) مدعمة بفيض تأملات واسترخاءات مثمرة ونقية،كما هي دواخله ونواياه الإنسانية،وسطوع صدى تصريحات بلاغاتها اللونية بانحيازها الدائم للمرأة،وجوهر تأكيدات كونها(أي المرأة)هي عالمه السامي والسحري معا.
جميع التعليقات 1
صباح الاعرجي
فنان ومبدع واحد الشخصيات التي كان لي الحظ بمعرفتهم