أتوقف وسط جسر أرباد وأنا في طريقي الى متحف فكتور فاساريلي أثناء زيارتي لمدينة بودابست التي ذكرَّتني ،مع نهرها الذي يقسمها مثل تفاحة الى نصفين، ببغداد ودجلة الذي يتهادى بين الكرخ والرصافة، أنتظر قليلاً هناك لأتأمل جزيرة مارغريت الصغيرة الساحرة التي تقع وسط نهر الدانوب والتي يرتبط الجسر معها من جهتها الشمالية بسلَّم ضخم، هذه الجزيرة التي تشبه أعجوبة نبتت وسط النهر، كانت قد أخذت اسمها من الأميرة الصغيرة مارغريت التي وضعها أبوها الملك بيلا الرابع لتعيش هناك الى الأبد كقربان شكر لله بعد خروج التتار من المدينة في القرن الثالث عشر، وهذه حكاية سأعود اليها في يوم قادم عند كتابتي عن هذه الجزيرة الفريدة من نوعها.
أواصل طريقي الذي بدأته من صوب بودا لأنتقل نحو جانب بيست ( كانت المدينة مدينتين هما بودا وبيست قبل أن تتحول الى مدينة واحدة سنة 1873) لأكمل بحثي عن متحف الفنان العظيم فازاريلي. أسير بعد الجسر مسافة قصيرة نحو اليمين واذا بالمتحف يلوح من بعيد ببنايته الكبيرة فاتحة اللون، وهو بالمناسبة واحد من ثلاثة متاحف عن الفنان وأعماله حيث يقع متحفه الثاني في مسقط رأسه بمدينة بيكس والثالث في فرنسا، هذا البلد الذي احتضنه وأنجز فيه أعظم أعماله. والفنان فاساريلي " 1908 – 1997 " يعتبر مؤسس الفن البصري أو ما يسمى "الأوب آرت" ولد في مدينة بيكس الهنغارية ودرس الرسم في بودابست، وقد سافر سنة 1930 الى باريس وبقي فيها الى وفاته. استخدم هذا الفنان في فترات عمله المختلفة أشكال الدوائر والمربعات ووظفها بمنظور ورؤية جديدة، وقد بدأ قبلها برسومات نفَّذها بالأسود والأبيض، ذات خطوط وأشكال متداخلة مثل عمله المعروف " زيبرا " والذي يظهر فيه حماران وحشيان تتقاطع خطوطهما السوداء والبيضاء مع بعضها بمهارة وحساسية تداعب النظر وتحيل العمل الى تجريد بصري خالص، وتعتبر هذه اللوحة أول عمل ينتمي الى الأوب آرت ومن خلاله دشن فاساريلي ظهور مدرسة أو تيار جديد في الفن كان هو رائده الكبير.
فاجأني المتحف من الداخل بقاعاته ذات الحجوم الواسعة وأعماله الكبيرة المصنوعة بعناية فائقة تكاد تتفوق على الكمبيوتر نفسه في توزيع المساحات والخطوط والمربعات التي تتداخل ألوانها مع بعضها لتخلق هذه السطوة والتأثير والجمال. أرى أعمالاً غاية في التعقيد وغاية في المهارة من حيث التنفيذ والعرض، أنه ببساطة ملك الأوب آرت بلا منازع ، وهو بفلسفته العميقة هنا يقترب من فنانين نادرين مثل موندريان أو كاندينسكي أو حتى كالدر وذلك باهتمامه بفلسفة خاصة ورؤية تنبع من داخلة، تمثله وتجعله مثل فيلسوف أو صاحب نظرية فنية اضافة الى كونه فناناً متفوقاً وعارفاً ومدركاً لتأثير فنه ولوحاته ومشاريعه الفنية. شدتني أعماله التي خرج فيها عن المألوف من حيث الحجوم وظهرت بأشكال غير منتظمة وضعت على الجدران بشكل مهيب ومؤثر، كذلك هناك الأشكال ثلاثية الأبعاد التي تمثل بعض المشاريع التي قام بتنفيذها بتكوينات مبتكرة وجديدة قبل ظهور الكمبيوتر بسنوات طويلة، أشكال غريبة مصنوعة من الورق أو الخشب ومواد أخرى، موضوعة على طاولات أعدت خصيصاً لذلك، وتكتمل إثارة المشهد بفعل الإنارة التي وضعت لتلائم هذا النوع من الأعمال وتبرز أفكار وتقنيات فاسيريلي.
اشتريت من متجر المتحف كتاباً عن الفنان، فيه أعماله وحياته وفلسفته الشخصية وخرجت من المتحف تستقبلني نفحات النهر الباردة ورأسي ممتلئ بأشكال دوائر ومربعات ملونة ومتداخلة وكأنَّ فاساريلي قام برسمها تواً على الصفحات الهادئة لنهر الدانوب الأزرق.
رسم حماراً فابتكر مدرسة جديدة في الرسم
[post-views]
نشر في: 9 يناير, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...