قبل وفاة تي إي لورنس عام 1935 بحادث على دراجته البخارية، وهو في السابعة والأربعين، كانت المكتبة الإنكليزية قد استقبلت ثمانية كتب عن حياته. وهي اليوم بعد خمسة وثمانين عاماً من موته تزدحم بأكثر من مئة وثمانية كتب، كان آخرها هذا الذي أنجزت قراءته الآن: "لورنس الشاب، صورة الرجل الأسطورة في شبابه" لأنتوني ساتِن (John Murray, London). ومحاكاة عنوان رواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه" واضحة، وموحية. لأن متابعة حياة لورنس في سنوات مغامرته الأولى كطالب علوم آثار في أوكسفورد، يلاحق قلاع الصليبيين من شمال سوريا حتى بيت المقدس، وكعاشق لحياة العرب قبائل وأفراداً، لابد من أن تكون قراءة لرحيل داخلي، تبدو الأحداث على الأرض مجرد ظلالٍ لها. إن الصبي الذي قام بتجوال واسع على دراجته الهوائية ، وهو بعد في السادسة عشرة ، حول مناطق بريطانية واسعة يتتبع أثر الكنائس، ثم حول فرنسا بعد ذلك يتتبع قصور وقلاع العصور الوسطى عمارة وهندسة، لا بد أن يكون أسير هاجس أبعد من التاريخ. ولكن هذا الشاب ولّد حركة في التاريخ خاصة به وحده، على كل حال. وهذه الحركة خُصّ بها العرب في مطلع القرن العشرين.
في مطلع الكتاب ينتخب المؤلف هذا النص للورنس: "كل الناس يحلمون: ولكن باختلاف. فهؤلاء الذين يحلمون ليلاً في استراحة عقولهم العكرة يستيقظون صباحاً ليجدوا أحلامهم باطلة: ولكن حالمي النهار رجال خطرون، لأنهم قد ينفذون أحلامهم بعيون مفتوحة، ويجعلونها ممكنة. وهذا ما فعلت." فأهواء لورنس أصبحت خطيرة، لأنه جسّدها في فعل سياسي. ولكن هذا الفعل السياسي في بلاد العرب يبدأ بعد أن ينتهي هذا الكتاب.
الكتاب يبدأ مع العام 1903، حين كان لورنس طالباً طموحاً في التجوال على دراجته الهوائية، في إنكلترا وفرنسا، يتسقط المعلومات والكشوفات الأثرية، ويسلم الحصيلة إلى متحف "آشمولين" في مدينته أكسفورد. في 1909 قام بجولة أشهر ثلاثة دراسية، قطع فيها أكثر من 1000 ميل على قدميه، بحثاً عما تبقى من قصور وقلاع الصليبيين في سوريا العثمانية. الكتاب يؤكد أن لورنس في هذه المرحلة المبكرة اكتشف أنه ابن غير شرعي لوالدين عاشا معاً، وأنجبا أبناءً وأسسا عائلة، دون زواج شرعي. وعند عودته من التنقيب الآثاري قرر أن لا يواصل الدراسة، وقد حصل على وظيفة باحث آثار في الشرق الأوسط، تابعة للمتحف البريطاني.
منذ تلك المرحلة استسلم لورنس، الذي كان يتمتع بذكاء ملحوظ وقدْرٍ عالٍ على كتمان السر غير ملحوظ، لأكثر من عامل أبرز هويته التي نعرفها اليوم، لعل أهم هذه العوامل معرفتُه الأثرية الواسعة للمنحى العسكري في حملة الصليبيين، حتى أنه انتفع من خطط "الحشاشين" في جبالهم المنيعة. ثم عاملُ تعلّقِه بالعرب "الذين اختطفوا عقله" بتعبير الشاعر ولتر دي لامير، وبصبي يُدعى "داهوم" في الكتاب، أو "سليم أحمد" كما في الكتب العربية. يكتب في إحدى رسائله لأمه: "إن من يرى النخلةَ مرةً، وخيامَ شعر الماعز لن يعود الشخص الذي كان."
هذا التعلّق العقلي الذي انتهى به إلى السياسة، وإلى أن يوظَّف مُخبراً في الاستخبارات العسكرية البريطانية مع الحرب الكبرى، وهذا التعلق القلبي الذي وضعه في مصاف الكُتّاب الكبار نجدهما معاً في كتابه الشهير "أعمدة الحكمة السبعة". هذا الكتاب سبق أن أحرقَ مخطوطتَه الأولى بعد رحلته الأولى من تجواله العربي، ثم أعاد كتابته بعد عودته الأخيرة. والعنوان الغامض مأخوذ عن جملة وردت في التوراة (كتاب الأمثال): "الحكمةُ بنَتْ بيتَها ونحتتْ أعمدتَها السبعة."
كتاب أنتوني ساتِن ينتهي عند العام 1914، حين يدخل لورنس مرحلة الفعل السياسي، في تأليب العرب على الانتفاضة ضد السطوة العثمانية، وتهيئة الدرب لهم للاستقلال، ولكن تحت رعاية بريطانية. الدور المزدوج لخدمة أمّته، التي خانته في سايكس بيكو، وخدمة العرب الذين ارتابوا في أمره حتى اليوم.
صورة الرجل الأسطورة في شبابه
[post-views]
نشر في: 11 يناير, 2015: 09:01 م