كان محافظ البصرة السابق، الدكتور خلف عبد الصمد وفي حمّى اندفاعه لتأسيس موقع بارز له، بعد فوزه الساحق بالانتخابات، قد وقف وسط العشار- قلب البصرة- قائلا : في كل مدن العالم الكبيرة والصغيرة، هنالك نقطة انطلاق، وسط البلد، مركز المدينة، وعادة ما يكون مميزا، جميلا، واسعاً ،الا البصرة، ليس فيها نقطة انطلاق معلومة، لكنه، وفي ساعات تجواله قال: ام البروم، هذه الساحة العريقة، حديقة الملك فيصل، يمكنها أن تكون مركزا وقلبا وساحة انطلاق للمترو والحافلات والمتجولين على الأقدام، يلتقي عندها ابناء المدينة، المسافرون، الغرباء والسياح . كان الرجل يجد في المكان استراحته كمسؤول سياسي، لكن، سرعان ما عصفت بإصبعه المشاغل ، فترك الامر، وظلت ام البروم مكبّاً للعاطلين عن الأحلام ، للغرباء من ابناء المدينة، ولمن لم تسعفه الآمال طويلاً .
ولكي تظل المدينة بأحلامها، هنالك، وحين يولي البصريون الشباب، أدباء ومثقفون ظهورهم الساحة العتيقة، ام البروم ، المقبرة بحسب رجب بركات صاحب كتاب بلدية البصرة وبدر شاكر السياب في المقبرة التي صارت مدينة، نقول حين يتوجه هؤلاء بخيباتهم، وينحدرون باتجاه جسر المحافظة القديم، حيث النهر لما يزل بروائحه الكريهة ، وبأطنان النفايات التي تلقى به يوميا، يوجد مقهى صغير، بيت من تركات الميسورين، الذين غادروا المدينة منذ عشرات السنين، بأسباب من خراباتها الكثيرة ، يتخذ منه ادباء وفنانون وعموم مثقفي المدينة مجلساً، يعلنون على لوح عند الباب عن انشطتهم، ومنه( المقهى) انبثق تجمع للثقافة، تبنّاه عددٌ من الذين لا يجدون في مبنى اتحاد الأدباء الكائن في البصرة القديمة متسعاً لقصائدهم وافكارهم. في البيت القديم هذا، هنالك غرفة صغيرة جُعلت مقراً لأحد الأحزاب الوطنية (الحزب الوطني الديمقراطي) وعند مدخله الذي لم تفلح أعمال التجديد كلها بجعله لائقا، هنالك حيّزٌ مستقطع من المقهى، يجد المتقاعدون فيه مكانا للحديث عن اهميتهم كموظفين سابقين، ولكي يمنح صاحب المقهى الأدباء أهميتهم، التي تليق فقد شطر المقهى نصفين، جعل الظاهر منه للعامة والباطن فيه لهم،في مسعى لجعل المكان آمنا للحديث الخاص، الذي منه شتم الحكومة والتعرض لمشاريع السياسيين الفاشلة.
بالأمس، (حين مررت بالمقهى) ولست هنا متذكرا قصيدة السياب، غريب على الخليج، إنما مررت واتخذت مجلسي فيه، رأيت شبابا بعمر الوعي، بعمر الثقافة وأهميتها في تأسيس وتحضّر الإنسان. شعراء ورسامون وصحفيون، بنين وبنات أهملوا هندامهم المدرسي ،الجامعي ، الوظيفي كما يجب لمتلف روحه في القراءة، نهم للكتاب، ولان التمايز ديدن لمثل هؤلاء فقد تركوا المدينة مهملة، تلتف على بعضها وتتسخ ، وراحوا يتقاسمون القراءة والبحث والتأمل. ولان المقهى مكان للضجيج ودخان الاراكيل فقد ضاعت ملامح الثقافة الوليدة هذه، وسط إهمال الجميع، المحافظة، وزارة الثقافة، الشركات النفطية، وإدارات الموانئ ووووو.
قبل ثلاثة اعوام من اليوم كنتُ، اوشك أن اقنع احد رجال الأعمال، من أصحاب الميول الثقافية والمسرحية بخاصة، بإمكانية تعمير المكان- المقهى- على نفقته الخاصة، لكن عقبة ملكية المكان وتداخل المقهى والحزب والتجمع الثقافي حال دون ذلك، ثم حملت الامر الى الدكتور خلف عبد الصمد، ايام ولايته، مستنهضا فيه حبه للبصرة وحرصه على تقديم ما يمكنه، وقد اشرت معه الى مقهى( مجكو) في اربيل، الطالعة عنوة من خاصرة القلعة الأثرية، وسط المدينة، حيث تبنت حكومة الاقليم هناك قضية تعميرها وتخصيصها لمثقفي المدينة، فوافق الرجل شريطة أن لا تتجاوز كلفة التعمير ١٠٠ مليون دينار، فقط، ذلك لان صلاحيته والمجلس لانجاز اي مشروع لا تزيد عن ال ١٠٠ مليون دينارا واحدا. وهو مبلغ حقير اليوم .أصابني وأصدقائي اليأس والإحباط . فسكتُ وانتهى الأمر.
يسال مواطنو المدينة، لماذا لا يوجد شارع للثقافة في البصرة ؟ على غرار شارع المتنبي في بغداد، وهو سؤال يصيب مقتلاً، ترى الا تستحق المدينة ذات العراقة والريادة في الثقافة شارعاً يخصص لمثقفيها من أموال مدينتهم المنهوبة ؟ وقد صرفت حكومتها المحلية المليارات تلو المليارات على مشاريع اقل ما يقال عنها انها فاشلة، ترى ماذا لو انها قررت أن تجعل من ميزانية احد المهرجانات، غير المثمرة دائما ومعها ما تخصصه وزارة الثقافة لتعمير المقهى هذه، لشرائها، وهي القادرة على شراء ما هو اكبر واوسع من مقهى ومقهى.
في كل مجلس ينعقد للثقافة، مع مسؤول كبير، يجري الحديث عن دعم الثقافة، ومع كل لجنة ثقافية في مجلس الحكومة يبحث البعض عن آلية لجعل الثقافة حصناً مكيناً للحياة، وحين نشير عليهم بالمعالجات يتركون الأمر وينصرفون. هي دعوة خالصة للمحافظ وأعضاء الحكومة والشركات النفطية والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والوزارات وكل من في قلبه ذرة وفاء للبصرة، لجعل فكرة شارع الثقافة ممكنة، لان تفعيل الثقافة في الحياة اسهامة ضرورية لنبذ العنف والتشدد وخلق أجيال تبغض الطائفية ، تصنع مستقبلا آمنا لنا.
شارع للثقافة في البصرة
[post-views]
نشر في: 13 يناير, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
محمد توفيق
مصيبتنا تكمن في أن أي خطاب أو توجه ثقافي يخدم تاريخ البصرة وثقافتها ونظافتها محصور في النخبة البصرية المثقفة الواعية التي لا تمثيل لها في مجلس المحافظة الذي هو في الواقع بعيد كل البعدعن تمثيل المصالح العليا للبصرة والبصريين، وخصوصاً الثقافية منها، و تنحص
محمد توفيق
مصيبتنا تكمن في أن أي خطاب أو توجه ثقافي يخدم تاريخ البصرة وثقافتها ونظافتها محصور في النخبة البصرية المثقفة الواعية التي لا تمثيل لها في مجلس المحافظة الذي هو في الواقع بعيد كل البعدعن تمثيل المصالح العليا للبصرة والبصريين، وخصوصاً الثقافية منها، و تنحص