إذن فقد رحل صديقي العتيق عباس البدري .. هي ليست رحلة جديدة له الى مكان آخر فوق أديم الأرض كما اعتاد في حياته .. هذه المرة يرحل عباس الى عالم الأبدية.. لا أمل بعد الآن في ملاقاته بعد سنة أو اثنتين أو خمس عشرة، مثلما حدث في الماضي عندما فرقتنا السجون أو المنافي لنلتقي ثم نفترق ثم نلتقي.
سيوجعني كثيراً أن أزور السليمانية في المرة المقبلة وأبحث في قائمة تلفونات أصدقائي هناك فلا أطلب تلفونه لأسمع منه عبارته الدائمة التي يطلقها بنبرة تشبه النغمة الحلوة "هلو عدنان .. شلووونك؟"، ولنتواعد على لقاء في بيته أو في ناد أو مقهى مع صديقنا المشترك الأستاذ مصطفى صالح كريم أو سواه.
تعرّفت اليه في مطلع السبعينات من القرن الماضي .. كنا ثلّة من شبان وشابات مقبلين على الصحافة والأدب والفكر الثوري بحماسة.. جمعنا زهير الدجيلي في مجلة الإذاعة والتلفزيون، قبل ان يأمر محمد سعيد الصحاف بطرد معظمنا لأننا "شيوعيون".
كان عباس الأكثر هدوءاً بيننا، لكنه بالتأكيد الرومانسي الأكبر .. شعره وكتابته النثرية كانت تشي بذلك .. كان عاشقاً كبيراً. عاش في تلك الأيام قصة حب ترددت وقائعها بيننا في جلساتنا الخاصة .. كان يكتب شعره بلغة رقيقة للغاية مشحونة بالعواطف المضطرمة وبخط جميل، ينتقي لها الأقلام والحبر والورق انتقاء. أما قصصه الصحفية فكان يكتبها بلغة شعرية، ما يجعلها محببة.
عانى عباس كثيراً من السجون والهجرات الى المنافي الداخلية والخارجية .. هو ابن بغداد التي عشقها بمثل ما عشق حبيبته، ولابدّ انه مات وفي نفسه بغداد كلها وليس بعضاً منها فقط.
من ذكرياتي معه التي لا تمّحي، انني ومفيد الجزائري انتهت بنا رحلة شاقة من زاخو في غرب كردستان العراق الى رانية في شرقها حيث التقينا عباس. كان ذلك في مطلع نيسان 1991 بعدما دخلنا الى كردستان العراق من سوريا أيام الإنتفاضة وبعد انتهاء مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية.. كنا نسأل عن حسين سنجاري الناطق باسم الاتحاد الوطني الكردستاني آنذاك لنتابع تطورات الأحداث بعدما هاجم الجيش العراقي المدن الكردية المنتفضة.. كان لقاءً احتفالياً بعباس ، فآخر لقاء بيننا في بغداد كان قبل ذلك بنحو خمس عشرة سنة، هو هجّر قسراً الى إيران لأنه من الكرد الفيلية وانا هاجرت سراً الى سوريا ولبنان.
حرص عباس على أن يلازمنا، فقد كان الكرد ينزحون بمئات الآلاف من مدنهم وقراهم .. كان الكرد مذعورين من فكرة قصف مدنهم ومناطقهم بالأسلحة الكيمياوية كما جرى لحلبجة قبل ذلك بثلاث سنوات.
أمن لنا عباس سيارة للتحرّك نحو أعالي الجبال الآمنة، إلا أن الطرق كانت مزدحمة للغاية بكل أنواع الآليات فضلاً عن البشر، فاقترح علينا المشي على الأقدام، وبالفعل مشينا تحت المطر والريح الباردة العاصفة يومين وليلتين من رانية الى قرية قاسمه رش الإيرانية مروراً بقلعة دزة وجبل قنديل.
ظل عباس ساهراً على راحتنا 17 يوماً قبل أن تأذن السلطات الإيرانية لنا، مفيد وأنا، بدخول إيران بوصفنا صحفيين، فيما بقي هو مع النازحين الكرد في ذلك المخيم الحدودي البائس.
عباس البدري.. لن تموت .. الزمن الأغبر الذي عشناه، ولم نزل، لم يُنصف مئات من المبدعين الحقيقيين، أنت واحد منهم، لكن زمناً آخر سيأتي ليجعل من قصة حبك المبثوثة وقائعها في قصائدك الجميلة معروفة للعاشقين في الأقل.
عباس البدري .. أفخر أنني كنت من أصدقائك.
رحيل عاشق كبير
[post-views]
نشر في: 16 يناير, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 2
عطا عباس
... وانا أفخر به صديقا صدوقا لا يعوض ... كم هي موحشة السليمانية بدون عباس البدري ... من اللحظة الاولى أحببت هدوئه ونبرة صوته التي لم تغاددرها الوداعة أبدا ... اغرب مافي الأمر ان علاقتي به مرت عبر المذياع ، حينما كان يقدم زاويته الأثيرة من أذاعة صوت
عطا عباس
... وانا أفخر به صديقا صدوقا لا يعوض ... كم هي موحشة السليمانية بدون عباس البدري ... من اللحظة الاولى أحببت هدوئه ونبرة صوته التي لم تغاددرها الوداعة أبدا ... اغرب مافي الأمر ان علاقتي به مرت عبر المذياع ، حينما كان يقدم زاويته الأثيرة من أذاعة صوت