لم أنتبه، إلا بعد ان ودعت زمن المراهقة المبكرة، إلى ان الراحلة فاتن حمامة كانت ممثلة تؤدي أدوارا قد كتبت لها. قبل ذلك كنت أتصور ان حياتها على الشاشة هي حياتها الطبيعية. في ذلك الوقت كنا من جيل يندر ان تجد به معجبا بفريق رياضي لهذا البلد أو ذاك. فلا فريق برشلونة ولا ريال مدريد أو ليفربول يهمنّا أو نهمه. ليست الرياضة إنما الفن، بشقيه الغنائي والسينمائي، كان شاغلنا.
مدينة الزبيدية، التي قضيت بها مراحل طفولتي ومراهقتي الأولى، كان شبابها من الجنسين منقسمين بين جماعة عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. شارع لهذا وشارع لذاك. أما أنا ومعي ثلاثة فكانت فاتن حمامة حبيبتنا الروحية. اليومية (الخرجية) التي كنت أتسلمها يطير معظمها على شراء صورها. وعندما انتقلت إلى بغداد كنت ابخل على نفسي كي أوفر ثمن تذاكر حضور أفلامها. وقد أكرر مشاهدة الفيلم غير مرة.
عندما تأتي عيناها على الكامرة مباشرة أحسها تنظرإليّ أنا من دون الناس. وعندما تشكو أحس ان شكواها موجهة لي فأنتحب. راسلتها كثيرا. وبعد اكثر من عشر رسائل جاءني منها جواب مرفق بصورة فطفت على كل من اعرفهم فرحا وكأني فزت بالجائزة الأولى لسحبة يانصيب.
أحقد على من كان يقسو عليها خاصة زوج أمها. وأغار عليها جدا حين يلمسها أحد. كدت اقضم شفتي يوما من الغيظ حين باسها احد الممثلين. ما ارتحت إلا عندما تزوجت من عمر شريف، الذي وان كنت أغار حين يبوسها، لكني كنت أصبّر نفسي بأنه زوجها وأمرها وامري لله. ظلت فاتن تشكل ركنا كبيرا من ذاكرة طفولتي إلى اليوم. عندما قرأت نبأ رحيلها أحسست بأن ذلك الركن قد انهدم فأوجعني لا بل وأبكاني أيضا.
ما كنت احسب ان يهيّج موت فنّانة كل هذه المواجع عندي. ظننت انه لم تبق بداخلي خلية واحدة ظل فيها مكان خال من الوجع أو الحزن بعد الذي حل بالعراق. أي زمن أغبر هذا الذي تموت فيه فاتن حمامة وتبقى حياة أبو مدين الداعشية تتنقل بحرية بين بقاع الأرض حاملة تحت أبطيها متفجرات وخناجر لتطش الموت والرعب والسواد على الناس. وما أحمقه من قدر يستكثر الحياة على احمد المهنا ويهبها بسخاء إلى أبو بكر البغدادي!
إنها "الچيلة الما تندل" التي أبكت شاعرنا الطيب ناظم السماوي في:
بچيتك مو بچي البطران .. مثل بچي الكصب لو حن على المنجل
بچيتك والمن انعاتب؟ حلاة العتب لو صار العتب مكبل
يا سركي التفك .. يا چيلة ما تندل.
رحيل فاتن حمامة.. وجع عراقي
[post-views]
نشر في: 18 يناير, 2015: 09:01 م