بدأ صاحب المقهى بتغيير ترتيب الكراسي والطاولات، طلب من جلسائه الانتظار ريثما يفرغ من عمله هذا. جمهور المقهى متلهف ينتظر بداية اللعبة. الفريق العراقي مع غريمه في المباريات الدولية، عيون المتفرجين باتجاه الشاشة الكبيرة، والكل في شُغل وشوق لمعرفة ما سيجري هناك، بعد دقائق.
أمرٌ مثيرٌ ان تجد غالبية روّاد المقهى التي يزعم مثقفو المدينة انها لهم، تعج وتضج بعشرات الرجال ومن كل الإعمار، لا لشيء سوى انهم يبحثون عن نتائج لعبة لكرة يتقاذفها بين أرجلهم لاعبون ماهرون، غير مبالين بأكوام النفايات التي تحيط المقهى من كل الجهات، ولا يعنيهم من أمر السياسة والفساد وشح المال وسرقة المليارات شيء. تقف وسط المشهد المذهل هذا لتقول مع نفسك:أين موقع الثقافة في ذلك، وما الحل ؟
تخرج من دائرة البريد سعيداً لأنك تلقيت طرداً فيه مجموعة كتب ورسائل وهدايا، بعثها لك أصدقاء كانوا معك في بلادك، لكنها حين ضاقت بهم غادروها، الى حيث الآمال أكثر سعة هناك، وحيث يجد الإنسان ضالته. وفي مكتب صغير، هو دار نشر حديثة، يجتمع فيه عدد من الأصدقاء ممن يعنيهم أمر الثقافة والأدب والموسيقى ويتعاطون الوعي، لكنك تفاجأ بحديث الشيخ فلان الفلاني، الذي ظل يحدّثهم عن بطولة قبيلته، وعظمة مشيخة آبائه، وطريقتهم في الغزو والنهب التي تختلف عن طرائق بقية القبائل في تصديها لغيرها، وانه ألًّف كتابا يتحدث فيه عن نسب القبيلة وأصولها ثم ينبري آخر ليتحدث عن من سكن البصرة من قبل، وينحرف الحديث باتجاه الأصول والقوة في الغزو، وهكذا تستعيد السؤال الذي قلته في المقهى، أنت البصري الذي لا تملك قبيلة، وليس لك من نسب سوى الكتابة والشعر والموسيقى والحب والاستمتاع بمشهد الشمس وهي تنزل غاطسة في شط العرب. أين موقع الثقافة في ذلك، وما الحل ؟
يأخذك ابن عمٍّ لك إلى مجلسٍ للعزاء، فتدخل حسينية بنيت حديثا، زينت أعمدتها بالرخام والقاشان وفرشت أرضيتها بالسجاد الإيراني الفاخر، مضاءة بأجمل ما يكون الكريستال والبلور، تفتش عن قرين، شبيه بك، بين الرجال الذين من حولك ومن أمامك ومن خلفك، فتجدهم ملفعين بالثياب السود والأذقان الطويلة والجباه المختومة والمسابح الطويلة التي تتقاذفها الأكف المزينة بأنواع الخواتم. وساعة يحين السمر والتفاخر، بعد انفضاض المجلس. يتحول الحديث بين من تبقّى من الاهل والجيران والأقربين من التذكر الحسن والتواصي بالجيرة وحسن الخلق والتراحم إلى نبش السير وتقليب الصفحات البالية في التواريخ، ليُبلغَ به الى ذكر المعايب، وإشاعة الشبهات بالسلف، والتعرض لهم، ولا تجد بينهم من ينبري ليقول: مالنا وهؤلاء، لقد ذهبوا الى دور حقهم، لنتحدث عن ما نحن فيه من آلام ومواجع. أما يكفينا ما نعاني منه. ولأنك الغريب الوحيد في المجلس هذا، وفي كل مجلس، ستظل تستعيد سؤالك القديم : اين موقع الثقافة في ذلك ، وما الحل ؟
ولأن الماضي تركةٌ ثقيلة، لا بل ولأننا ماضويون، (حدَّ اللعنة)، بتعبير علي الوردي فقد بلغ بنا الحال أن كل مجلس ينعقد لمثقفين، وفي أي مكان من مدننا، داخل عراقنا وخارجه أيضاً فأن التأريخ والدين بالذات يتسيّد المجلس ذاك، يبدؤون بحديث عن حليّة وتحريم الخمر، فيستل هذا آية، ويجيء ذاك بحديث، وينقلب آخر مفتشا في كتب الفقه والسيرة عن ما يبيح له الشرب أو يحرمه، وهكذا، حتى إذا تمكنت الكؤوس من أصحابها ينحرف الحديث الى احقية فلان وبطلان فلان وإلى تفضيل هذا على ذاك، فيرتعد هذا غضباً ويزبد ذاك شتيمة وقذعا. أما إذا ما بحثنا عن محمدة واحدة في مجلس كهذا، أو أي مجلس فلن نعثر على اكثر من ترديد وتكرار ساذج لأغنية واحدة هي (جذاب دولبني الوكت من فركتك جذاب). التي غالبا ما ينفضُّ عندها المجلس. وهكذا ينقضي الليل، ويبلغ الصحب بغيتهم لكنك تسأل السؤال التقليدي: أين الثقافة من ذاك؟ وما الحل ؟
أين الثقافة في ذلك وما الحل؟
[post-views]
نشر في: 20 يناير, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
ابو اثير
سيدي الكريم ...هذه نتاج زمن حقبة الأحزاب ألأسلاموية التي أطبقت علينا رغما عنا وهي من نتائجها السيئة والقادم أسخف وأقذر .
ابو اثير
سيدي الكريم ...هذه نتاج زمن حقبة الأحزاب ألأسلاموية التي أطبقت علينا رغما عنا وهي من نتائجها السيئة والقادم أسخف وأقذر .