* إلى هيثم خورشيد سعيد

أفضى حدث تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 الى توسع كبير في "تايبولوجية" المباني التي تقرر انشاؤها تلبية للمتطلبات المستحدثة، التي أفرزها حدث التأسيس. فالبلد الناشئ من ثلاث ولايات عثمانية سابقة، خلا بصورة لافتة من وجود مبانٍ عديدة ذات وظائف محددة، يمكن لها ان تيسر عملاً وتغني الاحتياجات المتنوعة الخاصة بالشأن الاداري والثقافي والصحي والترفيهي. والجانب الاخير في تنوع المباني تلك، ليس فقط كان وجوده نادراً وشحيحاً ضمن مفردات التخطيط العمراني للمدن العراقية، وإنما كان غير معروف لجمهرة واسعة من سكنة تلك المدن. فالمعارض مثلاً يمكن اعتبارها كإحدى المنشآت التي لم تكن مألوفة، بل لم تكن لها سابقة ضمن مفردات النسيج التخطيطي لمدينة بغداد. ولهذا كان قرار اقامة معرض زراعي – صناعي ببغداد سنة 1932، قرارا صائبا ومناسبا في آن، ولقي تجاوبا شعبيا كبيراً.

 

اختير لمكان المعرض الزراعي – الصناعي موقع فسيح في احدى محلات بغداد الحديثة، التي شهدت نموا سريعا ومطردا، وهي محلة العيواضية (العلوازية، بحسب التهجئة العثمانية)، الواقعة خارج اسوار بغداد التاريخية. انه موقع يمتد من شارع الإمام الأعظم الحالي وحتى تخوم مبنى كلية الهندسة السابقة. ولئن شغلت بوابة المعرض المبنية وقسمه الاداري الجزء المطل على شارع الامام الاعظم، (والتى لاتزال قائمة لحين الوقت الحاضر)، فان باقي مساحات الموقع خصصت للحدائق والمعروضات في الهواء الطلق، ودعيت لاحقا بـ "حدائق المعرض"، وأمست فيما بعد احدى متنزهات العاصمة المعروفة. بيد انها، مع الاسف ، أهملت وأزيلت لاحقاً، وشيدت محلها مبانٍ ذات وظائف مختلفة. معلوم ان عمارة مباني المعارض، بفورماتها المميزة، غير العادية، المتسمة على درجة عالية من المشهدية المثيرة، هي بذاتها تشكل احدى "المعروضات" اللافتة للمعرض المقام. انها معنية في ابهار المتلقي. وهي بذلك ترتقي الى مقام "الفرجة"، لكنها فرجة، دائما يتعين ان تكون سهلة البلوغ والادراك. وهي تتوسل لتحقيق ذلك، عبر وسائل لافتة وعناصر تتسم بالاثارة والسطوع، وغالباً ما تنطوي على تسلية مثيرة للاعجاب والافتنان. ولا يهم، هنا، اذا كان مبنى المعرض يعمل دائميا ام موقتاً. انه سرد يمزج بين الفن والعمارة والتصميم، مجسد بصورة مبدعة يسري في أحياز وفضاءات تلك المباني. 

يستعين معمار المبنى "هارولد كليفورث ميسون" (1892-1960) H. C. Mason ببهرجة شكلية ينتقيها بتعمد لجهة اختيار لغة عمارة مبناه وفي تحديد عناصر واجهاته. انه، وهو المعمار الرصين المولع بالصرامة الكلاسيكية، لا يتوانى في الاتكاء على ما يعرف بـ "الكيج" المعماري Kitsch (يترجم صاحب قاموس المورد، الكلمة اياها بـ <مادة فنية او ادبية من صنفٍ دونٍ >)، سعياً وراء تأكيد تلك البهرجة البراقة التى صنعها في واجهاته، والتي في رأيه يتساوق حضورها الصارخ مع متطلبات خصوصية العمارة وغاياتها، العاكسة لمضامنيها. ثمة أعمدة مضلعة ذات نهايات قبابية ملونة بلون التركواز/ الفيروزي تذكرنا فورماتها بهيئات المنائر في المساجد الاسلامية. كما انه يلجأ الى الزخرفة المعمولة من الطابوق ذي البريق المعدني (الكربلائي)، ويستخدمها بأمكنة واضحة وفسيحة في اقسام سطوح واجهاته، وثمة شريط ملون بذات اللون الفيروزي الاخضر، يُرى واضحا في اعلى حافات المبنى. فضلا على توظيفه لوشاح مزخرف يحيط بعقد المدخل، زيادة في التأثير البصري لمبناه على مشاهديه. وعلاوة على ذلك، فانه يوظف عنصر التضاد الذي انشأه بين العناصر الفرتكالية والافقية في الواجهة لناحية تعزيز الاثارة التكوينية وتكريس المتعة البصرية. معلوم ان مبنى بتلك المواصفات، لا بد وان يثير اهتمام كثر من مشاهديه لجهة غرابته التصميمية والوانه الناصعة، وهي الغاية التى يسعى وراءها المعمار، الذي يطمح الى شد المتلقي لنوعية عمارة مبناه والى لفت انتباهه لطابعها المبهرج. انه يتطلع الى تكثيف تلك الاحاسيس لدي المشاهدين وزوار المعرض منذ "الخطوة الاولي" وهم ينوون الدخول الى مبناه، بل ومنذ لحظة وقوع بصرهم على تلك "الغرائبية" التصميمية. لكن قرار المعمار بعدم ايلاء اهتمام كافٍ الى منظومة الانشاء او لطبيعة التراكيب الانشائية المتقدمة، يثير الاستغراب مرتين: مرة، لانه مؤهل جيداً، بحكم ثقافته الهندسية الرفيعة، لحل تلك الاشكالية وتقدير أهميتها التصميمية؛ والمرة الأخرى، لناحية ان موضوعة المعارض تتطلب بالضرورة هذه الاثارة الإنشائية، التى يمكن ان توفرها توظيفات المنظومات الانشائية المتقدمة. في حين اقتنع المصمم باستخدام الاساليب التركيبية المألوفة وحتى التقليدية في تنفيذ فضاءات مبناه، معتمدا على اسلوب الجدران الحاملة، والتسقيف بواسطة القضبان الحديدية والقناطر Jack Arching . متجاهلا اهمية القيمة الجمالية العالية التي يمكن ان تتحصل جراء إغفال عمل الخاصية "التكتونية" Tectonic النابعة عن نتائج استخدامات الاساليب الانشائية في الرفع من جماليات التكوين المبتدع. 

افتتح المعرض الزراعي – الصناعي البغدادي "الامير عبد الله امير شرق الاردن"، نيابة عن الملك فيصل الاول، الذي كان في زيارة خارج العراق، وذلك في اليوم الاول من نيسان سنة 1932، واستمر المعرض مفتوحا للزوار لغاية 30 منه. شغلت مباني المعرض المطلة على شارع الامام الاعظم، بعد الانتهاء من عمله، وزارة الخارجية، وبات مقراً لها لفترة زمنية طويلة امتدت الى الستينات، قبل ان تتركه بانتقالها الى مقرها الجديد في كرادة مريم بصوب الكرخ. ثم شغلته بعد الخارجية مديرية "إسالة ماء بغداد". وقد آل اخيرا كمقر الى الوقف الشيعي.

و"هارولد كليفورث ميسون"، مصمم مبنى المعرض، ولد في مدينة "امبلسايد" Ambleside ، من أعمال "كمبري"، في الشمال الغربي من انكلترا، عام 1892، وبدء نشاطه المهني تلميذاً متدرباً في مكتب والده، ثم دخل مدرسة العمارة في جامعة ليفربول، بعد ذلك انهي المدرسة البريطانية المعمارية في روما. ثم تخرج من الاكاديمية الملكية في لندن. وصادف، هناك، صديقه "جيمس موليسون ويلسون" لاول مرة. وقد حاز على جوائز تقديرية مهنية من "الريبا" RIBA وكذلك من الأكاديمية الملكية. خدم في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الاولى في الهند وفي العراق، وارتقى الى مرتبة "ميجور". بعد ذلك اصبح مساعدا لمعمار الحكومة في مديرية الاشغال العمومية في العراق غب تأسيسها، ثم شغل هذا المنصب، بعد ويلسون الذي كون معه ثنائيا ابداعيا، قاما معا في تصميم وتنفيذ مبانٍ عراقية مهمة اعتبرها، شخصياً، بداية الحداثة المعمارية في وطننا. كما اضطلع بمفرده، بعد سفر "ويلسون" سنة 1926، في تصميم مبنى الكلية الطيبة في باب المعظم (1930)، و"قصر الزهور" في الحارثية (1933)، وصمم العديد من الدور السكنية للنخبة في حيَ الوزيرية الراقي. كما اشترك مع ويلسون في اعداد تصاميم "الميناء الجوي" (1931) في الكرخ (مطار المثنى حالياً)، ومطار البصرة الدولي (1938)، والمحطة العالمية للسكك الحديدية بالكرخ" (1947-1952). ومحطة قطار الموصل (1938)؛ وغير ذلك من المباني المهمة. انضم، بعد مغادرته العراق سنة 1933، الى المكتب الذي أسسه ويلسون، كشريك، واصبح يعرف منذ الخمسينات بـ "مكتب ولسون وميسون وشركائهم". توفي في لندن سنة 1960.

بقيت لي ملاحظة أخرى، اود ان اقولها بصدد المعمار "ميسون". ففي سردي الكتابي ثمة إشارات عديدة عن المعمار الانكليزي الآخر "جيمس موليسون ويلسون" (1887-1965)، احد أهم المعماريين الذين عملوا في بلدنا، واسسوا عمارة الحداثة فيه. وقد شغل منصب مدير لدائرة الإشغال العمومية التى اضطلعت بإعداد تصاميم مختلف المباني المهمة في العراق والإشراف على تنفيذها. وهذا الجانب الابداعي المهم، هو الذي يجعلني دوما الى ذكر وتذكرّ هذا المعمار المجتهد في معظم كتاباتي الخاصة التى تناولت عمارة الحداثة بالعراق. وقد رأى بعض اصدقائي وزملائي في تلك الاشارات محض إعادة (ربما مكررة) لحقيقة باتت معروفة. حتى ان صديقي وزميلي العزيز "هيثم خورشيد سعيد" (المكرسة له هذه الحلقة)، عقب مازحا في احدى الندوات العلمية الخاصة بالعمارة، المنعقدة في بغداد، من "ان خالد السلطاني <خبصنا> باسم المعمار الانكليزي: "ويلسون...ويلسون!" وسأل مستفهما بنوع من المداعبة "الا يوجد غير ويلسون في العمارة العراقية؟ وماذا سيعمل السلطاني فيما لو لم يتسنَ لذلك المعمار البريطاني المرور على بلدنا إبان تلك السنين التأسيسية؟". 

الآن، استطيع ان اجيب، نعم، يوجد آخرون: <ميسون> على سبيل المثال!.