TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قدّاس الحرب الجنائزي

قدّاس الحرب الجنائزي

نشر في: 25 يناير, 2015: 09:01 م

أوروبا اليوم، والعالم معها يستعيدون بمزاجٍ مأزوم الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى. 16 مليون قتيل بين جندي ومدني، تسميهم حكوماتُهم شهداء، لستر عورة الجريمة. عجلةُ الحماقة البشرية مازالت تدور حتى هذه اللحظة، لتهرس أجساداً، وتُزهق نفوساً. فعاليات كثيرة بهذه المناسبة في لندن، اكتفيت منها باثنتين لا أَنشُد فيهما السلوانَ، أو استعادة ما لم أرَ، ففي سِلالنا من عظام قتلانا ما يكفي لنسيان الماضي، والاكتفاء براية الحاضر السوداء: اخترتُ "قداس الحرب الجنائزي" للموسيقي الإنكليزي بنجامين برِتِن (1913 ــــ 1976). واخترتُ مجموعة شعرية صدرت متواقتةً مع المناسبة، عن دار كركنيت للشاعرة الانكليزية جيني لويس بعنوان Taking Mesopotamia، تستعيد فيها وتخاطب أباً لها كان جندياً بريطانياً في العراق إبان الحرب.
لقد رجعتُ تواً من "قاعة ألبيرت الملكية"، التي قدمتْ هذا العمل الكورالي الضخم لواحد من أعلام الموسيقى الإنكليزية في القرن العشرين. كان مع مجايله الموسيقي مايكل تِبَت (1905 ــــ 1998) أبرز دُعاة سلام، حتى أن الأخير فضّل أن يدخلَ السجن على أن يشاركَ جندياً في الحرب العالمية الثانية. كلاهما وضع عملاً موسيقياً ضد الحرب، ولكن تِبَت كان أكثر تفاؤلاً في عمله "طفل زماننا" من قدّاس برِتَن هذا. فـ "قداس الحرب الجنائزي"، الذي يتشبث، في ألحان الحركة الأخيرة على الآلة أو حنجرة المغنين، بشيء من الأمل أو يكاد: "دعونا ننام الآن.."، أو "علَّ ملائكة الرحمة تستقبلكم في فردوسها.."، إلا أن لحن الختام يلاشي هذا الأمل الباهت اللون تماماً.
"القدّاس الجنائزي" عملٌ كوراليٌّ موروث ومألوف في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، عادةً ما يؤلف على أرواح الميت، أو الموتى. ولعل أشهرَ الأعمال فيه قدّاسٌ لموتسارت، تشيروبيني، بيرليوز، بروخنر، برامز، فيردي، دفورجاك، فوريه، وقداس برِتِن هذا. وتقديم هذا العمل في RAH، ينطوي على أكثر من عنصر يُفضل التعرف عليه: إنه مرثية لقتلى الحرب العالمية الأولى، وقد كانت حربَ طمعٍ استعماري بين قوات الحلفاء( بريطانيا، فرنسا وروسيا)، ودول المركز (الامبراطوريات الألمانية والنمساوية والعثمانية، وبلغاريا). تحالفات أشعلت الذريعةُ فيها أزمةً دبلوماسية نشبت على أثر اغتيال ولي عهد النمسا مع زوجته، أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 تموز 1914. ثم ان العمل الكورالي يعتمد، إلى جانب نص القداس اللاتيني التقليدي الذي يتكون من ستة أجزاء، على 9 نصوص شعرية لواحد من أبرز قتلى الحرب من الشعراء الانكليز: وِلْفريد أوين (1893 ــــ 1918).
كان أوين مدفوعاً شأن الشاعر الرومانتيكي (كان بالغ التأثر بالشاعر كيتس) لدور البطولة، ودورِ أن يكون شاعرَ حرب. فبالرغم من أنه تعرض لصدماتٍ أفقدته وعيه، وعولج في مصحات خارج خنادق الحرب، إلا أنه عاد ليقاتل ويكتب (كان يحاكي صديقه الشاعر الأكبر سناً سيجفريد سَسون، مع أن هذا حاول منعه من العودة). قُتل في إحدى الجبهات في فرنسا في 4 نوفمبر-كانون الأول 1918، قبل أسبوع واحد من إعلان الهدنة. وبقي شعره إدانة دامية:
"ما الأجراسُ العابرةُ من أجل أولئك الذين يموتون كالماشية؟
وحده الغضبُ الوحشي لصوت الرصاص،
وحدها حشرجاتُ الموت السريعة للبنادق المتعثرة..."
وزع بنجامين برِتِن، في عمله هذا الذي ألفه عام 1961، نصوصَ الشعر على أصوات التينور (الصداح) والباريتون (المعتدل) الرجاليين كأصوات مقاتلين. وأفردَ صوتَ السوبرانو والكورس لنص القداس اللاتيني. ثم غمر الجميع في محيط الأوركسترا، مع الأورغن الذي يشكل خلفيةً معتمة. في العرض الأول اشترط المؤلفُ أن يتشكلَ المغنون الثلاثة من ثلاثة بلدان اصطرعت في الحرب: انكلترا، ألمانيا وروسيا. وفي هذا العرض الجديد الذي شاهدته محاولةٌ للحفاظ على الشرط ذاته، مع ثلاثة أصوات رائعة: البريطاني برايل تيرفِل، الألماني ستيفان روغامير والروسية إيفيلينا دوبراسيفا.
أصداءُ "قداس" الإيطالي فيردي تلوح بين تفاصيل هذا القداس. ولكن النزعةَ البطولية لدى فيردي تصبح هنا مرثية دون تمجيد للحرب ولا احتفاء بانتصاراتها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ابو عبد الله الزاهد

    العراق اليوم في محنة حقيقية جعلته بين استهتارالساسة وبين سكوت القادة ووعاظ السلاطين يقنعون الناس بأنه ابتلاء من السماء وماعليكم الا تقديم الضحايا والالتزام بالصبر والسلوان.لايوجدهنا قداس جنائزي لشعب ميت سريريا سوى صوت داخل حسن .

  2. ابو عبد الله الزاهد

    العراق اليوم في محنة حقيقية جعلته بين استهتارالساسة وبين سكوت القادة ووعاظ السلاطين يقنعون الناس بأنه ابتلاء من السماء وماعليكم الا تقديم الضحايا والالتزام بالصبر والسلوان.لايوجدهنا قداس جنائزي لشعب ميت سريريا سوى صوت داخل حسن .

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram