أين نحن؟ هل نعيش زماننا ونلتقي صُدَفَهُ واحداثه ام نحن من نسْل الماضي وورثته، نحس بغربة في زماننا فنلوذ بنقاط نتذكرها ونشحنها بمباهج وامنيات لتكون هي محطاتنا الوهمية في العصر او في "مرابعنا"؟ .
قد تكون حالاً مشتركةً بين الشعراء العرب، العراقيين بخاص
أين نحن؟ هل نعيش زماننا ونلتقي صُدَفَهُ واحداثه ام نحن من نسْل الماضي وورثته، نحس بغربة في زماننا فنلوذ بنقاط نتذكرها ونشحنها بمباهج وامنيات لتكون هي محطاتنا الوهمية في العصر او في "مرابعنا"؟ .
قد تكون حالاً مشتركةً بين الشعراء العرب، العراقيين بخاصة، أعني استحثاث الذكرى او صناعتها لتكون عوضاً او لتكون مستراحاً. وربما لنعوض بها اخفاقنا في مصالحة الحياة وتقبّل وجودنا الهامشي في صخبها.
هذا الحال نجده عند سعدي يوسف، وقد نجح نجاحاً باهراً في التخلص منه وصار يعيش تجارب حيّة اكثر جمالاً واقعياً ومعنى (انا سعيد بضاحيتي اللندنية واشرب افضل نبيذ احمر في العالم...) ونجده عند حسب الشيخ جعفر وعند ياسين حافظ ونجده اليوم مهذباً صافياً عند فوزي كريم وهو يتحدث عن ربعه الخالي (وان كنت أرى الثلاثة أرباع هي الخالية وليس له الا الربع الباقي..)
ان الغربة في الحياة تجتذب وتغذي الشعور بالخسارة او الانسحاب من الواقع الحي فشلا او اكتئاباً. هي تجعل ما ورثنا وما شهدنا بديلا. ونحن الذين نمدّه بجمال أو مسرّة او هناء. وهكذا هي الصناعة الشعرية.
هذا قليل جداً، بل نادر، لدى الشعراء الانكليز، وربما الاوربيين اليوم، اللهم الا قصائد موضوعاتها عن الماضي والحديث اصلاً عنها. اما الاستعانة بها بدائل او ممرات نجاة فذلك ما يعكس محنتنا نحن او حسرتنا على غير الممكن.
هذا المدخل يوصلنا الى مجموعة حميمة دافئة، بلغة نظيفة لم يلوثها الزيف او تقلل من انسيابيتها القوالبُ القديمة. انها المجموعة الشعرية الاخيرة للشاعر فوزي كريم. فوزي يعيش في لندن منذ اكثر من ربع قرن ولاكثر من ربع قرن، يسكنه هاجس شوق او تحسر على ما فات او يفوت او ما يهدد بخسارة حياة. ولهذا قلتُ عنه يوما.
ويبدو اني كنت دقيقاً في تلك المقطوعة الشعرية فقد عرفته منذ السبعينيات في العراق وعرفته في لندن ورأيتُ مكتبته هناك وبيته. فانا على معرفة لا بأس بها بظرفه.
الغريب ان الشعراء العرب المقيمين في الدول الاوربية وامريكا، حين يجيئون الى العراق في زيارة او دعوة، تحس انهم ما يزال فيهم حرمان، حاجة الى ما خلفوه : أكلة بدائية، ازقة قديمة وسخة، مكالمة مع احداهن ، او ملاحقة معيبة...، ربما هي رغبة منهم في الثناء على ماضٍ بالكاد تخلصوا منه. اعتقد بان عطشاً مزمناً وربعاً خالياً "ما يزال في قاراتهم الشخصية. وهذا نفسه يفسر لنا التشبث بنقاط بسيطة" من الماضي واغنائها بامنياتهم غير المتحققة مثلما يفسر عدم اطمئنانهم والبحث عما يؤكد لهم انسانيتهم المتفوقة في البلدان الجديدة. فنحن سياسة واجتماعا وسايكولوجية وفنا شعريا تحت مؤثرات ما حملناه. ونحن بين ما لا نريده لأذاه ونريده لنتأكد به ويكبر حضورنا فيه. والا فما معنى الاهتمام ببنت الخال وطائر الحلم الذي يعود به في الفجر واحزان الوطن الجائع وحبال الغسيل وجرار الخمرة في غاردينيا وهي مقهى بائس؟ ماذا حصل لكم ياناس ؟ هل هذه "العراقيات" تعطي الشعر عبقاً خاصاً؟ لا عبق ولا جمال، هي تعاسات. لكن هذا الجوع واعلان الحاجة الى ما خلفناه وراءنا، كثيراً ما نجده يسكن حاضرة الشعراء. لا اكتفاء، لا ريّ ، لا نيل حصة مقنعة من جمال العالم ومباهجه. لكن جمال الشعر في الديوان يقربه لارواحنا الظامئة والمتعة الجمالية تغوينا فنلتم، وربما نجد هناءات : هو ما يزال معوزاً "احب لو توقظني من شفتيها همسةٌ .." بل هو يعلنها بصراحة ومن دون مواربة "وغربة منفي في الهيأة علّ فتاة تحسن لغتي في الهايدبارك" (ص64).
واضح جفاف الفم والفراغ والغربة والاحتياج القاسي القديم. واذا ما وفِّق يوما، فسرعان ما يخيب:
"اقتاد فتاة قالت لي
لا تحسن غزلَ الشبان.."
و"لم احسن تطويعهما.." (ص65)
هو غير مؤتلف مع عالمه. ثمة غربة مستمرة. وحاجات قديمة مستمرة
"ووجوها من اجناس شتى في السوق اليوم
وعلى عجل اطفأت الضوء
وصعت لسرير النوم
"قصيدة الربع الخالي ص34"
ثمة ملحوظات فنية بسيطة لابد من الاشارة لها : التزام الشاعر بالايقاع وبالتقفية، عند الضرورة، بعض من مستلزمات القصيدة الرصينة. وهذا ما اتضح في جميع القصائد بنسب مختلفة. لقد افاد الشاعر بحكمة من الشعر الانكليزي، من ثوابته الرسمية formal بعيداً عن العابر بعد ان اشرفنا بفضل النثر على بحر من اللغو ومن الهراء الذي لا اول له ولا آخر.
لكن في ايقاعات فوزي الهادئة والمسترسلة، ربما بتلقائية، انتبهت الى انه يستسيغ ما يسميه العروضيون بـ "الجواز الوحشي" او "الجوازات المكروهة" مثل "يعلق بشباك الحمى (لَ قُ بِ شِ ) من قصيدة لا احد يقتسم معي الخمر و "يكسب ثقة العالم" و "كأنكِ بقميص النوم". هي ملحوظة شكلية لكن لفوزي المهتم بالموسيقى نقول: هذا صولو نشاز في الهارومني..
تقابل هذه "المثْلَبة" فضيلة فنية هي جرأة فوزي على ترك الجملة الشعرية على طبيعتها. هو يترك مثلاً "من الشركْ الى الشركْ" يبقي كلمة الشرك الاولى ساكنة داخل الشطر لينجو الايقاع من الكسر. شخصياً، أنا أُبعد العتب واللوم فأفصلهما بشطرين..
من الشركْ
إلى الشركْ
كان فوزي أكثر عفوية هنا وعمله سليم وفي مكانه.
كما لاحظت انه يسمح لجملة الخاتمة بأن تستقر بالحال الذي جاءت فيه من دون تدخل مصطنع:
"ولكنني لستُ مُصغٍ"
( لا ادي لماذا مصغٍ وهي خبر ليس وليس خبر لكن ؟ )
ومثلها تلك الخواتم "وحين اكتب الحكاية" ص39 و "لمدينة لندن" ص36 و "منبت جذري وقد اقتُلِع .." قصيدة في ظل انكيدو ص89. هذه عفوية رائقة تجعل الشعر يجري على رسله ..
وان أُكمل نزهتي في "الربع الخالي" توقفتُ بارتياح عند "ابتكر مساءً أحدب". هذه من قصائد الديوان الاحلى بساطةً ونفاذاً. اظننا نحتاج الى مثل هذا في التعبير عن دواخلنا واحزاننا "الشعرية" .. اما قصيدته "في ظل كلكامش" فهي انموذج "خام" لعموم الافكار الشعرية او الثيمات التي تشغل الشاعر. ليس ضرورياً ان تكون القصيدة عن كلكامش او حتى في ظله. هي إفادة من "موتى"، من موت، يبدأ في تلك العوالم ليتداخل في عوالمه الحاضرة وفي احداث زمنه ومواجهاته الشخصية.
امام ما نشهده من مجموعات الخواطر والطرائف، مما يسمى قصائد، تملأ الصحف اليوم، ننتبه لتكامل القصيدة و وحدتها عند فوزي كريم في هذا الديوان وفيما تمثله قصائد: عامل الطين، هل الشتاء عاد، موت انكيدو، حي العامل، حوار الامواج، وأخيراً موعدنا بعد ظهيرة الاحد .. بما في هذه القصائد من افكار وتساؤلات تثيرها المواجهات اليومية.
نعود الى الشاعر الذي ما يزال خائفاً يتوجس من شرطي الحدود أو الجوازات كما من ماضيه واحداثه التي دمرت نفوسنا وغزت اشعارنا . هي تلك السنون التي فر منها من فرَّ ، ومنهم الشاعر ، ومن ظل منكسراً مدَمَّراً في مكانه امثالنا. حتى صارت أمنية فوزي بعد قوله : "وأمام الوجه الغامض لشرطي جواز السفر" ص29 ، يصيح مكبوتاً "لعل سلاماً عذباً" ص33. يزيدها مأساوية هذا الحس الواهن الذي يصحبها وأسى الشاعر الذي اضاع عمره ولا يدري ماذا يفعل و
"كم على جسدي ان يطيق ارتجافته؟"
ص77.
وهو يتحدث عن الحارس او الموت والشاعر قد اكتهل، وان مازال احيانا يتصابى، و الهاجس المرعب حاضر لايفارقه :
"اسكنُ منذ ولدتُ في موتي"
........................
ولا أجروء ان احتال على اردية الكهل"
ص 52
و
توشك الجمرة ان تخمد"
ص 54-55
هو هذا فوزي الضائع في الربع الخالي. تأتي ساعات يظن فيها نفسه "فتى الغرب المدلل" ناسياً انه بائسُ حي العامل وطريد الشرطة وتعاسات البلد المتخلف وفاقد الحياة الحقيقية والبهجة في المنفى.
ثلاثية الخوف، الزمن، اللاوصول ترسم خارطة الربع الخالي وهي في رأيي خارطة اكثر شعرائنا، بهذه الصورة او تلك. لكنه تمكن من استخلاصها، من تصفيتها، وتقديمها شعراً سمته الهدوء وعدم الاسراف اللفظي و العاطفي. استطيع القول ان هذه الاجواء النفسية يمكن ان تكون شاهداً لدراسة وضعنا البشري لمن يريد ان يعرف شيئاً عن هذه الاجيال في المستقبل. لا اريد لفوزي ان يكون واحداً من الجيل الضائع وان كنا جميعاً مهددين بالضياع..
لكني، وانا اقول ذلك هل لدي استعداد لان اخسر هذه الجمالية الناعمة وهذا الحس الشجي المألوم بلطف انساني، الذي يتمتع به "الربع الخالي" ؟ سأحيل هذا التساؤل الى نقاد الادب والدارسين ليكون النظر فيه أكاديمياً أولاً، والى علماء الشعرية لعل لهم رأياً يريحنا ولا يكبدنا خسارة. وأخيراً اسأل نفسي : هل حقاً رأيتُ كل تلك المشاهد وكل تلك الأفكار في الديوان ؟ أذن كم خصيبٌ هو "الربع الخالي؟"
فوزي كريم
حطَّ على تلّةٍ غريبة
عزاؤه البحر والهواء المغتسل بالموج
يوما فيوما أَلِفَ الطيورَ هناك وألِفَتْهُ.
حين سافرتُ اليه
رأيتُهُ قد تحوّلَ طائراً بحرياً.
استطعتُ ان اميّزَهُ
من رِعْشةِ خوفِه القديم
ومن طريقته في الغناء.
ياسين طه حافظ