سفينتنا تغرق، فليصحح معلومته من كان يعتقد بأنه الناجي الوحيد فيها. بالأمس كنت مع سائق تاكسي قلّني من بلدتي في ابي الخصيب إلى العشار، شاب وسيم ملتح، ينتمي لطائفة كبيرة. قال بانه أمضى أحد عشر عاما في احد المعاهد الدينية، وهو يعلم، بل متأكد التأكيد كله، بان يوم الخلاص قَرُب، وصاحبه(من يعتقد بإمامته) أعلمه بان موعد نهاية الكون حانت وقُضي الأمر. ذلك لأن الرجل الموعود سيخرج وسيقتل الكفار والمردة والمارقين. وقال لي كلاماً كثير، بما لا يمكن قوله هنا.. ولم يكتف، إنما قال بانحراف كل رجال الدين في العالم عن جادة الصواب، لذا توجب قتالهم، بحسب روايته، لتنتظم الدنيا بعد ذلك .
هذا المقطع العرضي ليس فصلا مستلا من رواية، إنما هو جوهر متجذر عند كثيرين. علينا ان نعترف بأننا في مجتمع مختلف، ظل ينقسم على مدى عقود طويلة، ليس اليوم، إنما قبل سنوات وسنوات من سقوط النظام السابق. فنحن ننقسم طولياً. الطائفة تنشطر على نفسها، وتتعدد وتتضخم وتستحوذ على ما امكنها من السلاح، لذا يتوجب تصحيح أفكار من يعتقد بانه الناجي الوحيد في السفينة العراقية. لكن قلَّ من يصرح ويعلن علينا ذلك. لذا نقول بأن: بقاء جملة الألغاز في حياتنا وراء استمرار المقاتل لأهلنا جميعاً، وما حدث ويحدث في البصرة لمكون ما، لا يختلف عن ما يحدث لأي مكون آخر في بغداد وديالى والرمادي وبقية المدن العراقية. فلا يظننَّ أحدٌ انه بمنجى من ذلك، حتى وإن كان من الطائفة الأكبر، لأنَّ طوائفنا باتت تنشطر عرضيا وطوليا، عاموديا وأفقيا كما يعلم الجميع، وستظل تنشطر حتى يخرج من بينها من يكفّر ويهدد بالقتل والنفي .
في المؤتمرات التي تنعقد للمصالحة والحوار الوطني يكون المؤتمرون متصالحين دائما لعلمهم بأن التباين في الافكار والآراء والانتماءات من صميم الطبيعة البشرية، لكن المشكلة تكمن في شارعنا المضطرب، فيمن لا يفهم الحياة إلا فردا، مفردا، هي طبيعة الغالبية من العامة، الذين لا يفهمون معنى أن لا يشترك معهم الآخرُ في أفكاره ومعتقداته. هم يريدون الكون على شاكلتهم، وما يحدث من قتل ونفي وطرد إنما يقوم على الأساس هذا.
قبل خمسين سنة او اكثر لم يكن في المدن الكبيرة بغداد والبصرة والموصل وغيرها من يتضايق من وجود الآخر المختلف معه، ذلك لأن طبيعة السكن والحياة كانت تقضي بوجود جيران لنا ممن نختلف معهم في الدين والقومية والمذهب والطائفة. أما اليوم وبعد متوالية النفي والطرد والقتل أصبح العيش الى جوار الآخر هذا مصدر قلق لنا، يغذي ذلك نفر ما زالوا يصرون على بطلان معتقدات غيرهم، نفر يستلون من كتب التواريخ ما يكرس من كراهيتهم لغيرهم. وما نخشاه حقا ان تكون الدولة مقتنعة بما يحدث وتصمت عليه، ذلك لأننا لم نجد فيها من يحدثنا بجدية عن مشروع مُلزمٍ للجميع ضمن قواعد قانونية، وجهد مدني حقيقي، يقضي على ظاهرة الطرد والنفي والقتل التي تلبست البعض حتى غدت من صميم ما يعتقد.
وما الحلول مستحيلة لذلك. فالبداية من وجهة نظرنا تبدأ من المنهج الدراسي، بل من الروضة. ولنعترف بان مناهج التعليم وفي مواد التربية الاسلامية والتربية الوطنية والتاريخ بحاجة الى مراجعة حقيقية، إذ لا ضير في تبني مشروع وزارة التعليم في مصر، الذي قضى برفع مادة التربية الاسلامية من المناهج، ومن شاء تعلُمَ وقراءة دينه ومعتقده سيتاح له ذلك في المسجد والكنيسة والحسينية. نحن نريد ان ننزع الالغام المركونة في ادمغة ابنائنا.
تاريخنا العربي الاسلامي شائك وملغّم مثل دستورنا، وفيه ما يغذي معاني البغضاء والكراهية ما فيه من قيم البطولة والوفاء والصدق والجمال، لكن الذين يستلون الوحشي فيها عاملون قائمون بيننا، فلنعمل على جعل الطبيعة بما فيها من جبال ووديان وسهول وانهار وأشجار مادة للشعر والقصص والحكايات التي تروى لأطفالنا في مناهج مدارسهم، ففي ذلك منطقة حياد لا يظلم أحد ٌ فيها احداً. لذا نطالب بإعادة تسمية مدارسنا وشوارعنا وجسورنا ومحلات التجارة لدينا بأسماء الزهور والطيور والأضواء وألفاظ التسامح والتوادد والتراحم، بعيدا عن الأسماء من الطائفة هذه او تلك من ابنائنا.
وبسبب من ضيق الوقت في المدارس المزدحمة خاصة اضطرت بعض الإدارات الى حذف مواد مثل الرسم والموسيقى والرياضة، وبسبب من سلوك متشدد ديني عن البعض تحولت المدارس الى أقبية لتعليم العنف والتشدد وكراهية الآخر. ترى لماذا لا يكون درس الموسيقى والمسرح والغناء مادة للحوار ونسيان الماضي بين الطلاب، نحن نجزم باننا لو اسسنا في كل مدرسة فرقة موسيقية وجعلنا الكمنجات والاركودوينات ومختلف الآلات الموسيقية وثياب المسرح وقراطيس الأعمال الفنية والألوان متاحة في المدارس لساهمنا في خلق جيل مختلف تماما ، جيل يحلم بالحياة وينشدها ويسعى مبتهجا بها. فهي ممكنة من خلال الغناء والحب والأمل، صعبة مستعصية قاتلة خلاف ذلك .
وسائل الإعلام غير المراقبة تشكل خطرا مضافا علينا جميعاً، وانتشارها المنفلت يشكل عقبة أمام حياتنا وحوارنا الوطني ومصالحنا ومستقبل أبنائنا أيضاً، ومثل ذلك نقول عن مئات الخطب التي يطلقها الخطباء والائمة من على المنابر كل يوم، هنالك من يبث سمومه بتعرضه لهذا وذاك، وتكفيره لهذه الطائفة وذاك الشيخ.
من يتصفح بنظرة سريعة ما يعرض من كتب على ارصفتنا يصاب بالدهشة قائلا: كيف لا ننفجر ونتقاتل بعضنا ونموت ونحن نطلق مئات القنابل على قلوبنا، كيف لا نكره بعضنا ونحن نغذي قارئنا بآلاف الصفحات التي تتحدث عن القبر وظلماته، عن القتل وأسبابه، عن النساء وتسببهن في نفينا وطردنا من الجنة والرضوان، وعن كراهيتنا الواجبة لهن. علينا ان نفحص وننتقي بروح خالصة للحياة ومباهجها ما في كتب (كبار الأئمة) ولنأخذ مصغين، لما يصلح لحياتنا منها، ونطمر وإلى الأبد ما يدعونا لنبذ الآخر ولكراهيته او لقتله.
حوارنا اليوم .. حياتنا غدا
[post-views]
نشر في: 8 فبراير, 2015: 11:34 ص
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...