TOP

جريدة المدى > سينما > ما وراء البنفسج الأحمر

ما وراء البنفسج الأحمر

نشر في: 11 فبراير, 2015: 06:36 ص

لنتذكر ما يقوله رولان بارت : "للحدث ثلاث قصص ، قصتي وقصتك والحقيقة". هذه قصتي أنا أو انطباعي الشخصي الذي تولّد عندي طوال رحلتي مع حلقات المسلسل العراقي "البنفسج الأحمر". 
يتناول المسلسل حقبة مهمة من تاريخ العراق ، لعلها الأكثـر جدلاً في تاريخه

لنتذكر ما يقوله رولان بارت : "للحدث ثلاث قصص ، قصتي وقصتك والحقيقة". هذه قصتي أنا أو انطباعي الشخصي الذي تولّد عندي طوال رحلتي مع حلقات المسلسل العراقي "البنفسج الأحمر". 
يتناول المسلسل حقبة مهمة من تاريخ العراق ، لعلها الأكثـر جدلاً في تاريخه ، وهذه لعمري مغامرة يدخلها المؤلف ناصر طه وهو يترجم لنا مشكلة بلد لم يتفق أبناؤه على تاريخهم بعد. خرج طه من حافة الخطر ليدخل في الخطر نفسه حين صاغ أحداث مسلسله بالجرأة التي شاهدناها. فهو الذي أعاد الى الأذهان جراحات ما قبل التاسع من نيسان ٢٠٠٣ ليتسنّى لنا رؤيتها من منظور ما بعدها.

 

صنع المسلسل رؤية كاملة وفهما متجانسا لحاضرنا اليوم حين يأخذنا منه ويرينا مشاهد الماضي في الفلاشباكات المتعاقبة وكأنه يقول: ما لم نفهم الماضي لن نفهم الحاضر. وفّرت هذه الانتقالات الزمنية المتكررة فرصة المقارنة بين نظامين ، نظام البعث وما بعده ، كنوع من أنواع الإدانة لهما. إدانة صريحة لحقبة الدم البعثية وأخرى مشابهة لنظام الفساد الحالي.
أعتقد أن حسن ديكارت (الفنان مناضل داود) قد صوّر لنا هذه الإدانة في أروع مشهد قدّمته الحلقة الخامسة حين طلب من صاحب مكتبة النهضة بطريقة ساخرة كتاب سلمان رشدي "الآيات الشيطانية" وهو الذي كان دائماً يطلب كتب محمد باقر الصدر الدينية في ظل نظام البعث وقتئذ. جسّد هذا المشهد القصير ببراعة رحلة التمرّد التي عاشها الانسان العراقي بين زمنين مختلفين. ففي زمن الطغيان البعثي ، يطلب حسن كتب الصدر الممنوعة كنوع من أنواع التمرّد ضد السلطة آنئذ ، في حين يعلن تمرّده الجديد من خلال رشدي وآياته الشيطانية في ظل طغيان الدين بعد عام ٢٠٠٣. 
ليس بالضرورة أن يكون حسن متديناً في السابق أو ملحداً في الحاضر كي يطلب مثل هذه الكتب ، بل هي حالة تماهٍ مع الممنوع حين تكون ممارسة الممنوع الوسيلة الوحيدة لإعلان التمرّد ورفض سياسات السلطة.
هذا هو باختصار المشهد العام للمسلسل ، لكن ما وراء هذا المشهد أو "الميتا مشهد" كما يسمّيها بارت ، هي تلك الرمزية المهمة التي تنطوي عليها أحداث المسلسل في وقتنا الراهن. ورمزية الشيء اقوى من صورته احياناً. ما وراء البنفسج الأحمر رمزية تفضح العناصر الثلاثة التي استند عليها نظامنا السياسي ، ضابط فاسد (العقيد عدنان / الفنان كريم محسن) وبرلماني مجرم (النائب غسان / الفنان هيثم عبد الرزاق) ورجل أعمال لص (عامرة / الفنانة آسيا كمال). في هذا المثلث المشؤوم تنحصر مشكلة العراقي اليوم. إنه المثلث الذي سرق الحرية المبتغاة من بين أيدينا وضاع معه حلم تحقيق الدولة العادلة.
لم يتحدث المسلسل بهكذا مباشرية طبعاً لكنها الرمزية التي أستقي منها فكرتي.
ثمّة تعقيد وإثارة لفّت مشاهد المسلسل من أوّله حتى آخر حلقة فيه. مثل هذه الإثارة صنعت كمّاً من الحيرة لدى المشاهد وجعلته يتسمّر أمام شاشة التلفزيون منتظراً بشغف حلقة المسلسل التالية. بناء درامي رائع أخذ معه سُرر الألغاز كلها حتى الحلقة الاخيرة حيث لم يستطع أحدٌ منا التكهّن بالنهايات قبلها. أنا نفسي كنت أتوقع نهاية معينة لكن عاد عليّ توقّعي خاسراً. 
لا يفوتني ذكر براعة المخرج فارس طعمة التميمي وهو ينقلني من مشهدٍ الى مشهدٍ آخر ، فيترك نصف الحدث غامضاً ونصفه الآخر معلّقاً فوق أستار التأويل. هذه هي لعبة صناعة الحيرة التي برع التميمي في ترتيب مشاهدها وصرنا معها نقترح نهايات وآمال. صناعة تذكرني بمسلسلات عراقية خالدة كالأماني الضالة وذئاب الليل ونادية حيث يضيع المُشاهد في زحمة الألغاز وحبكة التعقيدات وصولاً الى الحلول في نهاياتها.
لقد أجاد الفنان الدكتور مناضل داود دوره بامتياز. لا أغالي حين أقول انه ذكرني بإداء الفنان المصري الكبير يحيى الفخراني في رائعة أسامة أنور عكاشة "ليالي الحلمية". كانت العفوية والتلقائية صفة ملازمة له في كل حلقات المسلسل ، واما ضحكته الهستيرية في مشاهد التشفّي ، فكانت أشبه بالضحكة الهستيرية التي يطلقها سليم البدري (يحيى الفخراني) عند كل مقلب يفعله ضد زوجته نازك السلحدار (صفية العمري) او غريمه سليمان باشا غانم (صلاح السعدني).
أما الفنان حكيم جاسم (جبار الأخرس) فكنت أشفق عليه وهو يؤدي دوراً معقداً للغاية. لقد نجح هذا "الأخرس" في نقل ما لم يستطع عليه ناطقٌ محترف. صدقاً أقول أن عملاً فيه حكيم جاسم لن يمر دون أن يترك أثراً في ذاكرتنا ،وأرى إنه في البنفسج الأحمر قد فاق حتى على الدور نفسه. ناطقٌ ثم أخرس ، مجرمٌ ثم نادم ، خشنٌ ثم عاطفي مُحب. إنها الشخصية المركبة والمعقدة التي أجادها ببراعة حكيم جاسم.
لن أتحدث كثيراً عن إداء الفنانين في هذا المسلسل. يكفيني القول أنّهم ثلّة من المبدعين وظّفوا إحساسهم العالي ببراعة وهم يتقمّصون أدوار المسلسل. آسيا كمال ، تلك الفنانة المتوهجة بالعطاء ، قد قدمت دوراً صعباً هو الآخر. لقد أبدعت في أن تكون امّاً طيبة حيناً ، وامرأة شريرة حيناً آخراً. استمتعت كثيراً بإدائها لولا بعض الهفوات التي حصلت عندها ، خصوصاً في تلك المشاهد التي يقتضي منها إخراج الغضب بطريقة تقنعنا نحن المشاهدين بعفويتها ، فقد بدا التكلّف واضحاً في بعض تلك المشاهد وصارت بطلة "رباب" ، ذلك المسلسل الذي اعتبره قمة عطائها ، أسيرة الاصطناع في بعض مشاهد الغضب تلك.لا ادري إن كان رأيي مجحفاً بحقها ، لكن ما قدّمته في "رباب" صار عند المتلقّي بارومترا مهما لقياس عطائها واخشى القول ، هذه هي الصعوبة التي ستلاقيها في أي عمل قادم حيث ستكون ضحية المقارنة مع هذا العمل المميّز. "رباب" قمة آسيا كمال والحفاظ على هذه القمة وذاك المستوى العالي مهمة ليست سهلة إطلاقاً.
تأتي الإثارة في هذا العمل من تلك الحرفية البارزة في توظيف الشخوص وتوزيع الأدوار ثم حركة الكامرا وتصويرها زوايا الأحداث ، ومنها الكلوس آب شات Close Up Shot. لكن لم تكن بصراحة المؤثرات الصورية Effects حرفية بما فيه الكفاية ، فمشاهد الانفجارات مثلاً لم تكن بذات المستوى العالي ولم تقنعنا تلك المؤثرات بواقعيتها ،وهذه مشكلة تقنية ربما تعود لأسباب مادية بحتة. 
كثيراً ما أجاد المخرج في اختياره للاماكن وإظهارها جزءاً مكمّلاً لقصة المسلسل ، فقد أعطت الأماكن التي جرى تصوير المسلسل فيها بعداً إضافياً (وليس جمالياً فقط) على ما أرّخته ورقة النص من ذكريات وأحداث أليمة. الانتقال من محافظات الجنوب الى مناطق الوسط ومن ثم الى كردستان رافقه انتقال في اللهجات كذلك. كانت دلالات اللهجة واحدة من أجرأ القضايا في هذا المسلسل ، كما إنّها الأخطر في ذات الوقت ، لطالما تعوّدنا قراءة مثل هذه الدلالات بسياقاتها المضمرة. تحيلنا مثلاً لهجة الإرهابي ابو قتيبة (الفنان قحطان زغير)الى مرجعية مكوّناتية معينة ، وقد يرى بعضنا في هكذا أمر دلالة غير بريئة ، وليدة سياق طائفي عام حَكَمَ ذوق المسلسل. في الحقيقة ، ليست ثمّة جرأة في المشهد الابداعي ما لم يلامس المشهد الواقعي أو يقترب منه ، والمشهد الواقعي يقول هذا هو العراق. مكوّن له حظوة كبيرة في السلطة وآخر ينافسه عليها فيتبنّى العنف وسيلةً لهذا.مخيمات الاعتصام ولهجة أبي قتيبة ودلالات الأماكن الأخرى أجزاء عراقية مهمة جسّدها المسلسل من أعلاها ولم يتدخل في تفصيلاتها أو مبرراتها. إنها محاكاة لأشياء شهدناها كلنا سواء اختلفنا في توصيفها أم اتفقنا. كان المسلسل جريئاً حين دخل هذه المساحة الشائكة ووزّع الأدوار واللهجات على مناطقها بهذه المباشرية.
من هنا تنبع الجرأة والاّ لكان عملاً باهتاً يطارد الحياد فيغرق في المجاملات السياسية ، وهذه لعمري مهمة السياسي وليس الفنان على أية حال.
سأستعير قول النقّاد وأقول ، لا كمال في القطعة الفنية أبداً ، فالكمال الذي يبدو لبعضنا قد يكون نقصاً عند آخرين. من هنا أقول ثمّة مشكلة حقيقة أراها في البنفسج الأحمر ولا ادري ان كانت مشكلة النص نفسه (حيث لم أقرأ النص مكتوباً) أم انه الإخراج الذي لم يستطع تجسيد ما أراده الكاتب تماماً. تكمن المشكلة في القفز الذي شهدناه بين حلقات المسلسل فضاعت علينا فرصة متابعة كيف نشأت هذه العصابة الثلاثية غير المنسجمة (النائب غسان / التاجر عامرة / العقيد عدنان). لم تكن العلاقة واضحة بين هذه الشخوص الثلاثة والتي بَدَت كشخوص هامشية تعمل بمفردها ، وفجأةً وفي منتصف المسلسل ، ارتبطت بهم الأحداث كلها بطريقة تبدو مرتجلة ، كأنها صدفة لم يجر التخطيط لها في بادئ الأمر. باعتقادي، ضاعت حلقات كثيرة كنّا بحاجة فيها الى تركيز أكثر على عملهم واجرامهم كي يستحقوا بالفعل أن يكونوا العمود الفقري للمسلسل. على سبيل المثال ، لا ادري حتى هذه اللحظة ما دور العقيد عدنان في عملية سرقة البنك؟ سُرِّبَت ملفات البنك من النائب غسان (العارف بمخططات البنك حيث كان موظفاً سابقاً فيه) الى عامرة التي كلّفت بدورها جبار الاخرس لتنفيذ المهمة ، ولكن لا دور واضحا للعقيد عدنان في هذا! ثم بعد عملية السرقة لم نشهد صراعاً قوياً بين هذه الأطراف على مكان الأموال. أين ذهبت؟ من أخذها؟ لماذا هذا البرود واللامبالاة في ملاحقة تلك الأموال؟ كأنه حدث جانبي غير مهم مع العلم أنه محور المسلسل ورحى أحداثه!
نعم ربما تكون فجوة لكنها لن تضيّع جمالية المسلسل وحرفيته التي دعتني الى إعادة الثقة في درامانا العراقية القادمة. عملٌ يستحق منا الاحترام لأنه صنع من الممكن إنجازاً نفخر به جميعنا. فتحية لكادر المسلسل ولكل مَن عمل فيه. ننتظر منكم القادم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

السينما كفن كافكاوي

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram