من الأحداث المهمة التي ربما تقع مرة كل مئة عام، هو إقامة معرض أسطوري لفنان هو أعظم فناني عصره على الاطلاق وربما هو الأعظم على مرِّ التاريخ. أنه فنان عصرالباروك الهولندي ريمبرانت ( 1606 – 1669 ) الذي يحتفي به الآن أكبر متاحف هولندا (رايكس ميوزيام ) في معرض فريد من نوعه، يحتوي على مايقارب المئة لوحة لهذا العملاق الذي عاش في الفترة الذهبية للفن الهولندي الى جانب يان فيرمير وفرانس هالس ويان ستين وآخرين. مئة لوحة لفنان بحجم ريمبرانت تكفي لجذب مليوني زائر الى المتحف حسب توقعات الخبراء، علماً أنها تعرض لأول مرة مجتمعة بعد مرور 400 سنة تقريباً على رسمها، وحتى ريمبرانت نفسه لم يرها أبداً سوية في مكان واحد، ومن هنا يأتي سحر وأهمية مثل هذه المعارض العملاقة التي ينتظرها عشاق ومحبو الفن بشغف لا مثيل له.
بعد أن سلطت أضواء الاعلام حول التحضيرات المتعلقة بالمعرض والدعاية الكبيرة التي صاحبت ذلك جاء وقت الافتتاح الرسمي وتساءل الجميع، كيف سيكون الافتتاح وبأية طريقة ومن هو الشخص الذي سيفتتح المعرض؟ عندها جاء الجواب ذهبياً مثل لوحة الحراسة الليلية حين توقفت سيارة ملك هولندا وليم الكساندر قرب المتحف ترافقه شخصيات البلد الثقافية الكبيرة ليفتتح المعرض بنفسه، لأن لا أحد يليق بملك الرسم إلا ملك البلد نفسه، الملك يتجول بين كنوز اللوحات التي رسمها ريمبرانت آخر سنواته وأنا أفكر بهذا الفنان الذي تراكمت عليه الديون في نفس الفترة التي رسم فيها هذه اللوحات وكأن ذلك كان ايذاناً بأفول العصر الذهبي ونهايته المحتومة.
المعرض جمعت أعماله من متاحف عديدة حول العالم وقد اختار له المنظمون عنوان ( ريمبرانت متأخراً ) والقصد من ذلك هو عرض أعمال الفنان التي رسمها في وقت متأخر من حياته. وكان المعرض قد استضافه ناشيونال غاليري في لندن ثم انتقل الآن الى أمستردام التي أضافت له مجموعة من اللوحات الجديدة مثل (ياكوب يصارع الملاك) وبورتريهات شخصية لريمبرانت كذلك البورتريت المهم الذي يظهر فيه يان سيكس، والعمل الأخير لم يره أحد تقريباً لأنه بقي ضمن مقتنيات عائلة سيكس لبضعة قرون وهذه حالة يعتبرها مؤرخو الفن فريدة بأن يتوارث أكثر من عشرين جيلاً من نفس العائلة عملاً فنياً واحداً. هذا البورتريت أعتبره بشكل شخصي واحداً من أجمل مارسمه هذا الفنان ويظهر فيه صديقه الكاتب سيكس الذي أصبح بعد وفاة ريمبرانت عمدة أمستردام ، رسمه هنا وهو يتهيأ للخروج من المرسم واضعاً سترته على أحد كتفيه وماسكاً قفازاته الأنيقة ، انه احتفال لوني حقيقي حيث الياقة البيضاء الناصعة وتحتها السترة الحمراء القانية وأزرارها المنسابة الى أسفل مع الحلقات المقابلة لها وكأنه قد رسمها البارحة بفرشاة سريعة وطريّة، هنا نرى على قماشة هذه اللوحة حرية في الرسم ليست معروفة في ذلك الوقت، ويرجع ذلك الى أن الفنان قد رسم صديقه الكاتب، ولهذا أخذ كل حريته في المعالجة والرسم لينتج لنا هذه المعجزة. بعد أن تبتعد الخطوات قليلاً من هذه اللوحة، تسحبنا من بعيد قوة اللون الأحمر في لوحة العروس اليهودية، هذه اللوحة التي رسمها بعجائن من الألوان الكثيفة حيث يضع الرجل المحب يده على قلب معشوقته، وقد اعتبر الكثير من المختصين بالفن الكلاسيكي أن هذه اللوحة هي واحدة من أجمل اللوحات التي تكشف الحب والعاطفة بين الرجل والمرأة.
هكذا تتجول في المعرض وأنت تشم، بل تتعطر برائحة القرن السابع عشر حيث يستقبلك الحراس الليليون ببنادقهم وأعلامهم يتقدمهم الكابتن كوك، تحييهم وتدخل معهم وتصبح جزءا من اللوحة أو جزءا من ريمبرانت وشخصياته الخالدة.