بعض المعلقين وجدوا مبررا لاستخدام تعبير "حبة المهدئ التي انتهى مفعولها" في وصف الازمة الجديدة مع الاكراد بسبب نقص المال، والازمة مع اتحاد القوى بسبب قوانين التعامل مع البعث والحرس الوطني. والعبارة محقة من جهة، اذ انها تريد القول بان وعود الاصلاح والتغيير استطاعت نشر التفاؤل لنحو خمس شهور، واكتسبت مفعولها من سيناريو الاطاحة بنوري المالكي الذي كان يراه بعض الناس باقيا في منصبه رغم ارادة معظم الزعماء السياسيين والدينيين. فحين تحقق هذا التغيير بسرعة قياسية، وتشكلت الحكومة بسرعة قياسية، ثم جرى اقرار الموازنة بسرعة قياسية، تحركت الامال بان تصبح التسويات اسهل واسرع. الا ان الاسبوعين الاخيرين قاما بوضعنا مرة اخرى امام المصاعب، فنقص المال الفادح ادى الى تعقيد الموقف مع اربيل العاجزة عن دفع مرتبات مقاتليها. ونقص التفاهم الشيعي الداخلي لم يسمح بوضع النقاط على الحروف في التفاوض مع السنة، ولذلك صار كثيرون، ربما انا منهم ايضا، لا يجدون حرجا في تعبير "ان حبة المهدئ الاصلاحية انتهى مفعولها فعادت الازمات".
لكن الامر بحاجة الى ان نفكر مليا، فالحديث عن الاصلاح بوصفه "هدنة مؤقتة" مع الشركاء، هو مجرد محاولة هروب من كابوس النزاع الذي سيلاحقنا، اليوم او غدا. اي اننا قد ننجح في المماطلة او كسب الوقت، مرة او مرتين، لكن علينا الاستعداد للحظة حقيقة نقرر فيها ماذا نريد بالضبط، وعلى اساس اي مصلحة، حين تهاجمنا المشاكل مرة تلو الاخرى، ويستغلها خصومنا اقليميا ودوليا.
ان من يريد ان يماطل او يستخدم شعار الاصلاح ك"مهدئ وقتي" ينسى انه بحاجة حتى في ضوء هذا السيناريو، الى مهدئ يدوم اثره وقتا طويلا، اي الى علاجات فاعلة وليست مؤقتة، فكيف سيدافع النظام السياسي عن نفسه، ويقنع البيشمركة بالقتال معه حول تكريت والموصل، بينما يجوع المقاتلون الاكراد؟ وقل مثل هذا عن المتطوعين المصالوة والانباريين، الذين يقولون بصراحة ان لا احد سيتمكن من تحرير مدنهم دونما ضمانات سياسية واضحة تشجع الاهالي والمجتمع على التعاون مع النظام السياسي، وحتى لو تمكن الجيش والحشد ومعهم البيشمركة والتحالف الدولي، من طرد داعش من الموصل، فكيف ستضمن استقرار الصيغة الامنية والسياسية في مرحلة ما بعد داعش، دون ان تصغي لمطالب المجتمع السياسية والادارية؟ واذا اردت اخضاعهم بوصفك الاغلبية، فهل ستضمن ان لا يظهر داعش اخر اشرس واقوى، كالمجاميع التي يفرخها القمع السياسي والشعور بالاضطهاد، وكالقادة المجانين الذين يولدون في لحظات الانفعال وغياب العقل وتكسير الارادات والكرامة؟
ان منطق "المهدئ المؤقت" لن ينجح في وضع حلول فاعلة لصيغ التشارك في ادارة هذه البلاد، وبلا صيغة تشارك لن يمكن بقاء اي شكل من اشكال الوحدة السياسية، ولا يعني هذا ان التقسيم هو الحل والخلاص، لان معارك الشهور الماضية كشفت حجم الخلاف على الحدود الادارية المفترضة، في نحو ٣٠ موقع للقتال مع داعش، وان الدم سيسيل بغزارة اذا انفلت زمام الامور.
ان الاصلاح السياسي ليس امرا نتهرب منه، مستفيدين من صراخ المحاربين ورثاء الشهداء، بل تمثل عملية التغيير سبيلا وحيدا لامرين حاسمين:
اولهما استعادة احترام الدنيا لنا بوصفنا شريكا مسؤولا في امن العالم واستقراره، قادرا على تعريف السياسة والاصلاح بنحو قابل للتنفيذ. وحين تحترمنا الدنيا مرة اخرى فان معادلات التدخل الاقليمي والخارجي ستتغير بنحو ملحوظ.
وثانيهما ان نحترم دماء الشهداء والضحايا، التي كان يمكن ان تحقن لولا حماقات السياسة ونقص خبراتنا السياسية وتضييعنا للفرصة تلو الاخرى. فالاستمرار في العناد هو تقليل من قيمة دماء الضحايا، واللجوء للمرونة والحلول الوسطى التي تضمن الاستقرار، هي الوفاء الوحيد الممكن لعوائل الضحايا ولذكراهم، في بلد جرب الحروب مرارا ومني بخسارات لا تعوض، لكنه لم يجرب السياسة الفاعلة حتى الان، والتي لا قيمة لكل التضحيات بدون حكمتها وتدبيرها وتعقلها.
الاصلاح ليس "حبة مهدئ"
[post-views]
نشر في: 21 فبراير, 2015: 06:47 ص