هناك لحظة في مسرحية "الآنسة جولي" لأوغست ستندبرغ المؤلفة عام 1888، حين تطلب الفتاة الارستقراطية بشكل جذاب من خادمها "جون" أن يتخلى عن الرسميات بقوله "آنسة" حين يخاطبها. هذا السطر يفسر المركز الموضوعاتي لهذه الدراما السوداء- أي الطرق التي تملي بها الت
هناك لحظة في مسرحية "الآنسة جولي" لأوغست ستندبرغ المؤلفة عام 1888، حين تطلب الفتاة الارستقراطية بشكل جذاب من خادمها "جون" أن يتخلى عن الرسميات بقوله "آنسة" حين يخاطبها. هذا السطر يفسر المركز الموضوعاتي لهذه الدراما السوداء- أي الطرق التي تملي بها التقسيمات الطبقية الاتصال وتكبح الارتباط الإنساني- لكنها تكشف عن الضعف المعارض الذي يتخلل عميقاً في الدور الأنثوي إذ ربما يكون كاتب المسرحية نفسه غير واع ٍ به.
" وحدها المرأة تميـّز ذلك" تقول أولمان التي أعدت وأخرجت هذه المسرحية للشاشة وتضيف:"كم هو مهم أن نرى من أجل ماذا نحن نكون". جاء هذا الإلهام الذي يبدو ملائماَ من كونها ملهمة أنغمار برغمان لمدة طويلة. بعد أن عاشت مع المخرج العنيد المشهور لمدة خمس سنوات على جزيرة فارو البعيدة على بحر البلطيق ومثلت في العديد من أعماله العظيمة بضمنها "برسونا" و"سوناتا الخريف" و"مشاهد من زواج" فإن وجه السينما الاسكندنافية قد تخلص الآن من ظل برغمان وصنعت لنفسها اسماً ما وراء الكاميرا.
تمثل في الفيلم "جيسيكا تشاستن" الرائعة دائماً (التي تذكر بشرتها الشقراء الفراولية وهيكلها المدهش بأولمان حين كانت شابة) وكولن فارل. تنتقل القصة من السويد إلى أيرلندا ويجد الفيلم في البحث عن المطالبة بامرأته المسماة على اسمه كونها شخصاً أكثر تعقيداً مما يوحي التجسيد الهائل لها من قبل سترندبرغ.
يمتد الفيلم على مدى 24 ساعة في ليلة منتصف الصيف وهو عبارة عن رقصة الإغراء المازوخية المتفجرة إذ أنّ تحققه الدامي يهدد بتدمير الطبقة الاجتماعية العليا بأكملها. إن فيلم "الآنسة جولي" لأولمان يعج باللقطات الطويلة الواهنة التي تتخللها اللقطات المكبرة المركزة وهو يذكر بالشخصية المستقاة من الأفلام الفنية التي اعتادت على تمثيلها بنفسها: محبطة وقانعة على حدٍّ سواء ومثل كل المقطوعات الجيدة التي تختص بفترة معينة والحافلة بالتلميحات ("سوف أفرغه برشفة واحدة" تقول جولي بجرأة وهي تشير بالطبع إلى كأس النبيذ التي تصر على أن يصبّه لها "جون").
التقى موقع "أنديواير" مع المخرجة التي تبلغ الخامسة والسبعين والمشرقة دائماً. وكانت كريمة بشكل لا يصدق ومخلصة على نحو جذاب وكانت عيناها الزرقاوان المكهربتان تتألقان بينما هي تتكلم عن فيلمها المحبوب.
* هذا أول فيلم تخرجينه بعد 14 سنة من الانقطاع والأول الذي تحققينه باللغة الإنكليزية؟
- يقولون كانت مدة طويلة جداً لكن المسألة ليست كذلك- لقد أخرجتُ للمسرح بضمنها هنا في نيويورك. أخرجت مسرحية "عربة اسمها الرغبة" مع كيت بلانشوت وأديت دوراً على المسرح. والآن توقفت عن التمثيل وقمت بالإخراج فقط. كنتُ أحضّر لصنع فيلم معد عن مسرحية "بيت الدمية" لأبسن- من تمثيل كيت ونسلوت وكيت بلانشوت- كنا ننتظر المال لكن المشروع توقف في النهاية.
* تكلمتِ عن الظهور أمام المعوقات بسبب العمر والجنوسة وحقيقة أنك ينظر إليك كممثلة بدلاً من مخرجة. هل كان هذا صراعاً من أجل صنع هذا الفيلم؟
- من الصعب صنع فيلم حين تكون امرأة وممثلة والآن بسبب العمر أيضاً. لكني أحببت إخراج المزيد من الأفلام لأنها تجمع كل شيء اهتم به. أريد أن أرى الصورة بأكملها.. كيف يتصرف الناس ولماذا. أنا حزينة حقاً حين اكتشفت أني متأخرة جداً في ممارسة الإخراج حين كنت في الخمسين وإلا فأني كنتُ صنعت المزيد من الأفلام. أنا محظوظة في صنع فيلم مثل "الآنسة جولي" لأن الأفلام الآن كبيرة.. بعض الأفلام التي لا تصدق تصنع، لكنها كثيرة جداً تلك الأنواع ذات الإنتاج الضخم التي تحصل على التمويل.
* يدور فيلم "الآنسة جولي" حول الشخصية أكثر مما حول الحبكة وهذه الشخصيات متقلبة ورغباتها وحوافزها غير واضحة. كانت هذه فكرة سترندبرغ عن المذهب الطبيعي في المسرح لكنها الأطروحة النقيض للتشخيص حسب السينما الكلاسيكية. كيف وظفتِ الممثلين كي يجسدوا هذه الشخصيات على الشاشة؟
- بالنسبة لي هذه الشخصيات كان من الأسهل إخراجها لأنها كما تعرف – انا ممثلة مسرحية وهي الطريقة التي أرى بها الحياة. بالنسبة لي الفيلم هو مسرح بطريقة أو أخرى. كان سترندبرغ مهماً بالنسبة لي لأني اشتغلت كثيراً مع تنسي وليمز وكان متأثرا جداً بسترندبرغ. في الواقع إنّ سترندبرغ يكره النساء وما وقفن من أجله وبما أنّ هذا الفيلم معدّ لذا كانت لديّ الحرية أن أقول ما اعتقد أنه كان شعور الآنسة جولي وأردت أن أظهرها بطريقة مختلفة. ماذا تشعر حين تقف في المدخل مثلاً، إذ أن سترندبرغ لم يعطها سطراً هناك لذا منحتها سطوراً. ليس معنى هذا الوقوف ضد سترندبرغ لكني شعرتُ بالشخصيات وما ترغب أن تقوله. بالنسبة لي كمخرجة في الواقع أبني ما يجلبه لي الممثلون- أستطيع العمل فقط مع ممثلين رائعين.
* أنك فعلت حسناً إذ أشركت الممثلة "جيسيكا تشاستين" و"كولن فارل"
- نعم! أعطيت لهما السيناريو وأخبرتهما أن يثقا بي وأنا سأثق بهما لأني أعلم حين تبدأ الكاميرا بالدوران فإنما يكونان هما المبدعين ولن أقول لهما بما يفكران أو لماذا يقولان شيئاً ما. عملي في الواقع أن أهدأ. كان لديّ ثلاثة مواهب هنا [ سامانثا مورتنون وهي تؤدي دور كاثلين خطيبة جون أيضاَ عضو طبقة الخدم]. هذه الفتاة الصغيرة السعيدة – أدعوها فتاة صغيرة، جيسيكا- لن أفكر أبداً بأنها لا تشبه شخصيتها في الحياة الحقيقية. حين بدأت ترتجل كانت داخلة في الدور والمزاج للآنسة جولي وحين التقيت بها بعد الفيلم كنت متأثرة بما فعلته. تقول اننا أديناه معاً وهذه ليست الحقيقة: إنها أدته بنفسها. إذا ما أديت دور الآنسة جولي سوف تكون لديّ اختيارات مختلفة واختياراتها كانت الأفضل. أخبرتها بعد إحدى اللقطات عند النهاية حين كانت تتلوى على الأرضية.. لن أكون قادرة على ما قمت بأدائه. حين يقتل الطائر،وهو الشيء الوحيد الذي يكون بحوزتها، فإن هناك عديد الطرق للاستجابة لذلك- ويجب عليّ أن أقول بأن الطائر لن يقتل في الواقع.. لقد كان دمية.
* العجز عن قول ما نريد فعلاً أن نقوله ونجبر على التكلم بنوع من الشفرات المقبولة اجتماعياً هو أمر ما زال إشكالياً اليوم بالتأكيد.
- نعم بالضبط. هل الفرد يجاري الحقيقة فعلاً وعما يشعرون؟ حتى فرغسون مثلاً. الناس لا تجرؤ على القول عما يشعرون. يقولون ما يشعرون بأمان القول لكنه اتصال غير حقيقي. الاتصال الحقيقي الوحيد هو تلك الصورة مع رجل الشرطة الذي يمسك بالصبي والصبي بحاجة إلى أحد كي يحتضنه. تلك هي الحقيقة.
* الفيلم الأول الذي مثلتِ فيه "هروب شبابي" أخرجتهُ امرأة هي أديث كارمار. ألم يصبك الإغراء أو الإلهام أبداً أن تخرجي فيلماً قبل فيلمك الأول "صوفي" في عام 1992؟
- لا لم آخذ هذا الأمر مطلقاً في الاعتبار. كتبت الكثير بالأسكندنافية وطلب مني أن أكتب سيناريو لفيلم. حين سلمته وكانوا سعداء به قالوا بأني يجب أن أخرجه. وفكرت:"ماذا؟" اتصلت بأنغمار وقلت هل تعتقد بأني أستطيع أن أخرجه؟ وقال نعم تستطيعين أن تحققيه. بعد ذلك الأسبوع الأول عرفت أن ذلك ما كان عليه أن أفعله. كنتُ في الخمسين من عمري آنذاك. لكني في الواقع شعرت بالسعادة وأرغب في صناعة المزيد. ثم أخرجت سيناريوهات لأنغمار مثل "اعترافات سرية" – 1996 و"خائن"- 2000 ... أعطاني سيناريو "اعترافات سريّة" وقال لي:" إنك تؤمنين بالله وأنا لا أؤمن لذا يتوجب عليك أن تخرجيه". كان سبباً أحمق. لكني اعتقد بأن حياتي كانت تعني أن تكون بالطريقة التي تحولت بها وأنا مقرة بالجميل.