قد تكون داعش الصورة الأكبر في صراعنا مع قوى الشر والظلام، وقد تكون أيضا العلامة الوحشية الفارقة التي تقف بوجه الحياة والمدنية والتحضر، ويمكننا رسم صور أكثر وحشية لفعلها كي ندينه، ونقف ضده ونحاربه، بما بين أيدينا من قوة. لكن داعش التي تتضح صورتها في المدن التي يقاتل فيها أبطالنا في الجيش والحشد الشعبي ورجال العشائر تنعكس وتتمرأى لنا في أكثر من صورة، من حولنا، وفي مدن الوسط والجنوب. قد لا يكون السروال والقميص الأفغانيين ولا اللحية الطويلة وجمّة الشعر الكثيفة ما يحرك الصورة في داخلنا لكننا نضمر الصورة تلك في الافعال التي يقوم بها البعض هنا، بعلم او دونما علم منه ومن السلطات المحلية، وهذا ما يجعل خشيتنا من داعش المضمرة هذه واجبة ومبررة.
أثارتنا الصور التي نشرتها تنظيمات داعش الخاصة بآثار متحف مدينة الموصل، وصرنا نفزع من المعاول وهي تهوي على هويتنا الوطنية، وصرنا نتحدث عن تمزيق للهوية العراقية من خلال ذلك، لكن ممارسات "داعشية"، لا تقل خطرا يقوم بها نفر هنا وهناك، وفي امكنة عراقية تخضع لسيطرة الدولة، دونما يتلفت اليها أحد، أو يشار لها بخجل واضح. أنا شخصياً أنظر للأشجار المتربة المغبرة وجنابر باعة الخردوات وقمرة شرطي المرور وصور الإعلانات القديمة واليافطات الممزقة التي تحيط بتمثال الفراهيدي، وسط البصرة على أنها من الأعمال التي تحط من شأن عراقيتنا وهويتنا الوطنية، ومثل ذلك انظر وينظر غيري من سكان مدننا الى الصروح الأثرية والنصب والبيوت التراثية وأماكن العبادة القديمة حيث غرس الانسان العراقي الأول بذرة المعرفة والحكمة.
ذات يوم وبفرح غير مصدّق، من العام 2009 خرجت البصرة مبايعة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، لا لفعل اقتصادي او استثماري عمَّ خيرُه على الناس، إنما لأنه تمكن بقوة من الجيش، خالصة للوطن من تخليص المدينة من سيطرة الميليشيات، حيث جعل من ربيع العام 2008 أكثر خضرة. هؤلاء الذي اندفعوا بحكمة ناقصة لإخراج المدينة من عالمها الحضري المتمدن إلى بطون الغيب والخرافة، ولعل المعاول التي هشمت نصب الحوريات(السندباد) في ساحة الطيران على نهر الخورة اوضح شاهد. اليوم نستعيد صورة المدينة لكن في مكان آخر، في تكريت والرمادي والموصل حيث تمسك داعش برقاب أهلنا هناك. وحيث تنعدم المسافة بين الحرية وبين القتل وتمزيق الاجساد، بين الوحشية والتمدن. ومهما تكن الصورة مشوشة في أذهان الناس، ملتبسة بفعل اختلاط أوراق وطنية كثيرة إلا أنها ستتضح بعد انجلاء غبار المعركة. المعركة والحرب الرئيسية مع داعش، مع من لا يريد لنا إلا القتل، حيث تنعدم لغة الحوار معه وتتراجع معاني الانسانية.. لا حرب لنا مع مَنْ جعل مِن دمه مخاضة حياتنا.
قد تكون مخاوف السكان المدنيين المحتجزين عند داعش في محافظات المنطقة الغربية "مبررة" إلى حد ما من دخول قوات الجيش والحشد مدنهم بفعل ما تنقله الماكنة الاعلامية لداعش من تلفيقات، أو بفعل خطاطات يبعث بها متحمسون مشتركون، او مأزومون طائفيون على صفحات التواصل الاجتماعي، لكن الصورة الحقيقية غير ذلك بالتأكيد، فقد آن الأوان لكي نتحدث عن صفحة عراقية جديدة، من خلال أحاديث سياسيين كبار ومراجع دينيين في النجف، ومن خلال الحراك الوطني الذي تولد إثر جرائم داعش التي لم تقتصر على مكون بعينه. لكن ذلك لا ينفي وجود خروقات جانبية، وهذه الحرب مثل أي حرب شرسة تنتظم في رقعة وتفقد انسانيتها في أخرى. هذا إذا سلّمنا جزافا بإنسانية الحرب في مكان ما من الأرض.
أظنُّ أنْ لا لغة مشتركة بين الانسان وداعش، ومع أني أجد اللغة هذه منقوصة مع بعض عناصر مسلحة أخرى في الوسط والجنوب، إلا أني أجدها تنفتح وتسترخي في الحوار، وهنالك جملة مشتركات حياتية وأخروية قابلة للأخذ والرد، والمساحة تتسع للحلم والتأمل مع قيادات كبيرة منهم. ومن يتعقب خطاب التيار الصدري يجد التحول الكبير فيه، ولا نعدم وجود مثل التحول ذاك عند كتل وتيارات شيعية أخرى.
العقل والتعقل والحكمة وتأمل جغرافية العراق وحياة أبنائه وآفاق مستقبلهم هو ما يعوزنا في المرحلة هذه، اليوم وقد أيقن الجميع أن لا أمن ولا استقرار ولا حياة مع من يريد قتلنا، أكان داعشيا محضا أو من تمرأى على صورته. العراق يتسع لنا جميعاً، ولن تتمكن جماعة او طائفة من حكمه بمفردها، لذا لا ضير من وجودي مع من أختلف معه، بل أشعر أنَّ وجود المختلف مكمل لي. ستذهب داعش الى حجرها القذر الذي انطلقت منه وسيأتي العراق. الإكبار والإجلال لمن جعل من دمه مخاضة لحياتنا القادمة.
ساعة يكون الدم مخاضة للحياة
[post-views]
نشر في: 3 مارس, 2015: 05:29 ص
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
محمد توفيق
جرائم داعش ضد معالم الحضارة العراقية في الموصل لم تثر للأسف الشديد ردة فعل قوية في الشارع لدى الجمهور العراقي العادي ، الذي استعاض عن التاريخ بالوعي الطائفي لذلك فهو ،أسوة بالداعشين ، لا يرى في النصب التذكارية الآشورية وأهميتها التاريخية والثقافية وال
محمد توفيق
جرائم داعش ضد معالم الحضارة العراقية في الموصل لم تثر للأسف الشديد ردة فعل قوية في الشارع لدى الجمهور العراقي العادي ، الذي استعاض عن التاريخ بالوعي الطائفي لذلك فهو ،أسوة بالداعشين ، لا يرى في النصب التذكارية الآشورية وأهميتها التاريخية والثقافية وال