لا أروع ولا أمتع من قراءة هذا الكتاب لمن يريد تبين طرق الهيمنة التي يمارسها الذكر على الأنثى. أتحدث عن بيار بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي وكتابه "الهيمنة الذكورية"، النص النقدي الذي يمضي بك في أعمق طبقات العقل الأنثوي مفككاً كيفية إسهامه في إقرار اله
لا أروع ولا أمتع من قراءة هذا الكتاب لمن يريد تبين طرق الهيمنة التي يمارسها الذكر على الأنثى. أتحدث عن بيار بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي وكتابه "الهيمنة الذكورية"، النص النقدي الذي يمضي بك في أعمق طبقات العقل الأنثوي مفككاً كيفية إسهامه في إقرار الهيمنة على المرأة، رمزيا ولغويا وسوسيولوجيا، لدرجة أنه يتتبع طرائق استدماج الخطاب الذكوري وإعادة تمثلها جسديا من قبل المرأة أيضاً وأيضا.
عالم الاجتماع هذا كان قد اهتم طوال حياته بمفهوم "العنف الرمزي" كما يعرف قراؤه، وهو هنا يغرق في تفاصيل العنف الثقافي الممارس ضد المرأة بوصفها مهيمَناً عليها من قبل خطاب صاغه الذكر. وبما أن الأخير مهيمن دائما فقد استدمجت المرأة وعيها في رؤيته فصارت عونا له على نفسها. لكأنها يئست من أية مقاومة لذلك الخطاب فسلمت أمورها لمضطهدها، بل هي لم تقتنع بذلك إنما راحت تضطهد نفسها بنفسها باستعارة منظور الرجل وعينيه وذائقته وأفكاره، فباتت "تتفحل" ضد أنوثتها لإرضائه، لا بأن تكون فحلا أو "مسترجلة"، بل على العكس، بأن تكون أنثى مثالية بمعيار الذكر لا بمعيارها. وبينما هي تتحول هذا التحول الخطير، كان صاحبنا قد استراح من عناء الهيمنة وأيقن إن النظام استقر وانتهى أمره؛ المرأة صارت رجلا بعينيها وفكرها وجسدها فاستدمجت نهائيا بأنوثة مضفاة عليها. صارت ملكه، لا بجسدها حسب، بل بمخيالها ونظامها المعرفي.
الظواهر التي يتأملها بورديو في الكتاب بالغة الجدة والطرافة وهي تعمُّ جميع الثقافات، فموضوعة الهيمنة الذكورية كوزموبوليتية ولا تقتصر علينا فقط. أنظروا مثلا كيف يفسر نزعة المرأة للاقتران بمن يكبرها في السن، هذه الظاهرة توجد عندنا طبعا كما هي موجودة في فرنسا وفي أوساط الحرفيين والكسبة تحديدا. يقول أن ذلك يأتي تماشيا مع رغبة المهيمن، أي الرجل، فهو يفضّل الأصغر منه سناً لتأكيد هيمنته الرمزية أمام الأخرين. وعلى ذلك، تستدمج المرأة هذا المنظور فتعدُّ نفسها منقوصة إذا ما اقترنت برجل أصغر منها سنّا. ليس لأن النقص متعلق بها بل بكونه متعلقاً بالذكر الذي وضع كبره بالسن معيارا لهيمنته. (ص ٦٣) ، فهل رأيتم تماهياً مع خطاب المهيمن وتلذذاً به أكثر من هذا
الحال أن بورديو لا يعرض الظواهر من دون تمحيص دقيق. هذه هي عادته. وهو في هذا الكتاب بالذات، لا يكتفي عند حدود السوسيولوجيا بل يحايث الانثربولوجيا بسبب علاقتها الوثيقة بموضوعة الذكورة والأنوثة. لذلك تراه يمرُّ بإشارات الجسد وتراتبياته فيما يخص وضعيات الحب بين الرجل والمرأة، عارضا تفسيرات ممتعة لبعض الأساطير والخرافات التي تمجّد وضعية العلو الذكوري والسفلية النسوية. ثم يمضي في تأويلاته بعيدا ليتأمّل في تراتبية المخبوء من الجسد والظاهر منه بوصفها مركزية لتبيان معايير تفضيل الذكر على الأنثى.
كتاب أكثر من رائع أتمنى أن يقرأ على نطاق واسع من قبل النساء. فلعلهنّ يتفهمن المأزق ويحاولن التحرر منه.
نعم، الأمر صعب جدا، أعرف هذا، لكنه يستحق المحاولة.
جميع التعليقات 2
Ilham
المقال أكثر من رائع حفزني على قراءة الكتاب
سهام
نعم الكتاب رائع لكن يحتاج الى تركيز كبير شكرا على المقال