حتى بعد ان تستغرق في تاريخ الفن ، وتمعن النظر جيدا في الاف الاعمال الفنية ، وتقترب من تفهم الدوافع النفسية والظروف البيئية والثقافية للفنان ، سيبقى سؤال الفن معلقاً في سماء المقولات الأدبية ، وغالبا ما تأتي الإجابة من المضامين
حتى بعد ان تستغرق في تاريخ الفن ، وتمعن النظر جيدا في الاف الاعمال الفنية ، وتقترب من تفهم الدوافع النفسية والظروف البيئية والثقافية للفنان ، سيبقى سؤال الفن معلقاً في سماء المقولات الأدبية ، وغالبا ما تأتي الإجابة من المضامين ، وليست من الكيفية التي ظهرت عليها هذه المضامين.
- لماذا هذا الفنان اكثر قليلا من كونه مجرد رسام ؟
الجوهري في الفن لا يتطور تدريجياً ( المهارات والأفكار هي التي تتطور ) ، الجوهري في الفن يحدث ، اي يصبح حدثا ، يصبح حضورا ماديا ، انه موجود ، وليس بالضرورة ان يكون مفهوما ومبررا .
- هذه الفنانة الشابة ، اكثر من كونها مجرد رسامة ، إنها من النوع القادر على تشويشنا ، اربكانا ، على مفاجأة خمول التلقي لدينا . هي لا تدعنا نكرر أنفسنا .
اعمال الفنانة مريم تركي ، العراقية التي تعيش في نيويورك ، وترسم (أشياء ) عن بيتهم القديم في العراق ، اعمالا زيتية على الخشب و الكانفاس ، ممارسات تعبيرية تجعل الجمال حتميا ، وحدثا يستحق التامل وطرح السؤال مجددا عن ماهية الفن . اذ لا يمكنك ان تمر الى جانب أعمالها وتمضي مسترخيا ، لا يمكنك الاكتفاء بابتسامة إعجاب بلهاء ثم ينتهي كل شيء .
لم تخلق مريم لممارسة الرسم لانها فقط تجيد الرسم ، لقد ولدت ومعها تلك التوهجات العميقة التي استقرت في مراكز الحلم والتخييل والعاطفة . تلك التوهجات التي احتكرتها الطبيعة للميزين المبهرين الذين يوسعون مجال العيش في هذا العالم على نحو اكثر مقبولية .
لا كبير فرق - عندي في الأقل - بين ما تتيحه مريم من كثافة جمالية ، وتلك التي يتيحها كبار المصورين الذين اعود لأعمالهم كلما كنت بحاجة الى مساعدة الفن .
مريم تركي ، من مستقر حياتها الجديدة ، حيث إيقاع العالم يتسارع في كل لحظة ، هناك في نيويورك ، تبسط روحها على سرير الأحلام البعيدة ، تستدعي البيت العتيق ، رائحته ، زواياه ، فضائه المفتوح ، مفرداته المبعثرة في محيطه ، تستدعي كل ذلك في لوحتها .
هي تستدعي تلك اللحظات المشوشة ، لتأتي في ذاكرتها على هيئة ألوان مستقرة وخطوط أليفة . تجلس وترسم وهذا هو تقريبا كل شيء في تجربة الفتاة التي تقف على أبواب العشرين ربيعا .
هي مازالت تحمل الدهشة الاولى لطفولتها : كيف ان دجاجة في الدار كانت تتألم عند الذبح ، بينما دجاجة اخرى تعيش معها في نفس القن ما زالت تلهو دون اكتراث ؟ تندهش مريم ، وتستمر معها الدهشة لتأتي ( و بعد كل هذه السنوات ) لتقترح الوانها ، ليس من بيئة البيت القديم ، وليس من بيئة المكان الجديد . تاتي بألوانها من ( باليتة ) التذكر ، من ذلك الحضور الغرائبي في زمن ميت ، انها لا تستعيد الحدث ، هي تلون ما تبقى من النسيان .
بألوانها التي يغيب فيها الاحمر الصريح احيانا ، الذي يفترض ان يكون هنا كناية عن الالم ، او الذعر ، بالنسبة لطفلة صغيرة موضوعها الدجاجات الأليفة ودورة وجودها في البيت ، التي تبدأ في حديقة الدار وتنتهي في المطبخ ، (يظهر الاحمر سيدا مطلقا في عمل او عملين ، او عنصرا حركيا في الهامش في اعمال اخرى ) ، يتلاشى الأخضر في تدرجات الحزن الطفولي نحو الأصفر الباهت ، ويظهر الاورنج مباغتا ، بينما يتوارى الازرق في الخلف ، او يتقدم بهدوء نحو الأمام ، ليمارس دور خلفية اللوحة تارة ، وعنصرها الحركي تارة اخرى ، في شبكة تداخل لوني محسوبة بدقة كجزء من مهارة خفية ، لا تفصح عن اي رغبة قصدية في هندسة الفضاء ، وإنما تكتفي بالتعبير العاطفي عن توازن المشهد لونيا وحركياً . كان سيزان يقول : العمل الفني الذي لا يبدأ من العاطفة ليس عملا فنيا .
ترسم مريم ، حياة متوقفة ، حياة تدور في مكانها ، كانت تعيش داخلها بين جدران زمن بعيد ، تلك النهارات التي تكلّس فيها الوقت ، حيث العربات وهياكل السيارات والجدران التي لا يمر عليها الهواء . كأنها مقاطع حجرية من الوقت ، لكن مريم تلونها وتجعلها مرة اخرى موجودة .
تنفتح اعمال مريم على حدود دلالية ، بقدر الدلالات التي اصبح اسم بلدها ينطوي عليها ، ويختزنها في صورته ، التي تجمع النقيض مع النقيض . و من اجل حماية اللوحة من ذكرى البلاد ، يجب التوقف داخل حدود هذه اللوحة ، يجب ممارسة نوع من الصمت بإزاء هذه المشاهد ، التي علينا ايضا ومن جانبنا ان نفتح لها باب الذكرى الخاصة بنا .
لماذا مريم مختلفة ، لماذا هذا الفقر القصدي ( المموه ) في عائلتها اللونية ، وهذه الصلابة الأليفة في اشكالها ؟
ببساطة ، لانها فنانة موهوبة وأصيلة ، تمارس الرسم بداية بعيدا عن اغراضه الخارجية ، بعيدا عن مباركتنا واتفاقنا معها ، هي تستنطق الصور العالقة في وجدانها ، تلك التي كانت في يوم ما ، قد تسببت لها في الحيرة والإرباك ، يوم عاشت سنواتها الاولى في بيت اصبح الان بعيدا وراء المحيطات .
كانت هناك ، تراقب الالم المخنوق لدجاجات البيت الأليفة ومرحها في مشهد متداخل واحد ، ظل يعمل عمله في ذاكرتها وربما في أحلامها ، وصادف ان يتشكل على سطح اللوحة دفعة واحدة .
بقي ان أقول : ان مجموعة تخطيطات بالرصاص أبدعتها مريم تركي ، هي الوجه الاحترافي في مشغلها ، هي الممارسة التي عليها ان تؤكد لنا من خلالها ، ان ما يجري في هذا المشغل ، هو جهد جاد ايضا ، واحترافي بلا شكوك ، هي هنا ليست فقط الطفلة التي تتذكر ، هي هنا الفنانة التي تستطيع .
في مجموعة تخطيطاتها التي اطلعت عليها ، هناك يد تدربت بصبر و بثقة ، وهناك عالم يتأسس ، هناك رغبة في تحقق الشرط ، ليس كل تخطيط هو ممارسة أولية للوحة ، بل هو في واقع الحال ، لوحة منجزة ، تامة ، متحققة بقوة ، تخطيطات تدل على مهارة وثقة وانشراح عاطفي . هكذا دفعة واحدة ، يكون المشروع قد أعلن عن نفسه ، عن حضوره .
في تخطيطاتها هناك وعد صريح بأنها مشت الخطوات التي يستدعيها إنجاز فني مفتوح على المستقبل بقوة .
مريم تركي ، فنانة ترسم على طريقة أولئك الذين خصتهم الطبيعة بالاختلاف ، بالعمق والطاقة التعبيرية المتفردة . ليست من مصلحة الفن إحالتها الى مرجعيات سابقة ، صحيح انها قد تذكرنا بمرحعيات عالمية ، ولكنها تشترك معها في تمثل عالم الحلم والذكرى المشوشة عن الطفولة ، وتختلف في الأداء ، هي تؤدي أداءها الشخصي تماماً .
ليس بعيدا ذلك اليوم ، الذي ستجد فيه مريم مكانها في الساحة الفنية كظاهرة شابة تؤدي فنا عميقا وأصيلا ومغايرا.
مريم تركي دم جديد في أوردة الرسم العراقي ، هي من جيل يتشكل بعيدا عن البلاد ، جيل احلامه كوابيس مختلفة تتعلق بموت الدجاجات وذكرى الالم ، في بلاد كأنها مصنوعة من كانفاس الالم والحزن الذي يشبه الوانها .