TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > معرفتي بدولة فكتوريا 2-3

معرفتي بدولة فكتوريا 2-3

نشر في: 10 مارس, 2015: 03:47 ص

حدث ذلك في خريف 1995، عندما سلمني الصديق فايت هاينيشين رواية (فكتوريا) للروائي سامي ميخائيل، وكانت في حينه مرت خمسة عشر عاماً على مدة منفاي الذي لسوئه أو لحسنه سيطول. أقول لحسنه، وأنا على يقين، لولا المنفى لما كنت تعرفت على فيكتوريا، ولما وقفت أمامكم الآن. نعم، عرفت صديقات أخريات لفيكتوريا في مدن عديدة وأزمان مختلفة، لكن أعتقد أنكم تتفقون معي، أن كل إنسان يحمل دمغة خاصة به، وليس من النادر أن تختصر امرأة واحدة نساء عديدات. يعرف المرء ذلك من تجربة الحب، هناك دائماً امرأة واحدة نحبها، تختصر كل نساء العالم أمامنا؟ امرأة تظهر فجأة، ونعتقد، أننا عرفناها منذ زمن طويل. الأمر ذاته يحدث عند التعرف على بطلات بعض الروايات. هل أخطأت القول؟ ربما أكون أخطأت فيما يتعلق بالحب، لأن الحب "أعمى" كما يُقال عندنا، ولكن فيما يتعلق بالأدب، لا أعتقد، أنني أخطأت، من ينسى بالتالي نساء مثل: آنا كارنينا، سونيا، أيما بوفاري، جين أوستين، ليدي تشاترلي، السيدة ده رينال، ماتيلد، أورسولا، وغيرها من النساء. منذ القدم، وقبل أن يخلد لنا الأدب اليوناني، نساء مثل ميديا، وألكترا وأنتيغون وهيلينا، قدم لنا أجدادنا البابليون، صاحبة الحانة، التي عبرت صورتها كل العصور، فكتوريا هي الأخرى امرأة ستعبر صورتها كل العصور، منذ أن تذكرها سامي ميخائيل، ليس لأنها امرأة من نمط خاص، فهذا أمر بديهي، بل لأن سيرتها ضمت من بين ما ضمته سيرة مدينة بغداد، بكل ما حوته من بشر وملل ونحل وقوميات، كل ما أحاط بها، فكتوريا في الفترة تلك، وكل ما دار حول مدارها. على غلاف الكتاب بترجمته الألمانية، جاء ما يلي: "فكتوريا هي ملحمة عائلية"، كان من الأفضل، أن يُكتب، "فكتوريا ملحمة عالم كامل"، عالم سيظل مجهولاً لكل أولئك الذين لم يحصلوا على شرف التعرف عليه حتى الآن. اسمحوا لي أن أستطرد قليلاً، وأقول: ظاهرياً يروي سامي ميخائيل قصة عائلات عراقية عاشت في حي يهودي في بغداد قبل الحرب العالمية الأولى، لكنه في العمق وعن طريق وضعه فكتوريا في محور القصة، المحور الذي يدور(حول) الصراع بين العائلات هذه، روى سامي تاريخ العائلات العراقية، التي عاشت جنباً إلى جنب، تاريخها البعيد والقريب بكل ما حمله من صعود وهبوط،، وشكراً لفكتوريا في النهاية، ألا يكتشف القارئ نفسه وحسب، تاريخه الشخصي، الاجتماعي، بل ستتشكل أمامه سيرة مدينة كاملة، سيرة مدينة بغداد في ذلك الوقت، ومعها سيرة بلاد كاملة.
فكتوريا ابنة رئيس العائلة "إشوري"، التي عاشت في زمن كان فيه من غير المسموح للنساء الخروج للشارع، السير أو التنزه لوحدهن، هي إحدى البطلات التراجيديات التي عن طريقها يقدم أطراف الصراع أنفسهم. وهي لا تفعل ذلك في حركتها خارج البيت، في الشارع وحسب، كما نراها على الصفحة الأولى من الرواية، بل حتى وهي تجلس في داخل البيت. الصورة التي يقدمها سامي عن الصحن الداخلي للبيوت البغدادية هي العقدة الأولى للسجادة التي سيحيكها لنا سامي مع فكتوريا. الصحن الداخلي هناك هو مسرح الحياة الذي تدور عليه حياة عائلة كثيرة الأفراد، كل شيء يدور هناك، هنا تطبخ ربات البيوت، ويغسلن الملابس، هنا تجلس العائلة مع بعضها، تتحدث، أو تسهر في ليالي الصيف المقمرة. ولكن هنا أيضاً، تنشط أقدم طريقة لنشر الأخبار، فمن فم على آخر تدور الإشاعات وتنقل بسرعة البرق. هنا أيضاً تسخن الأمزجة بسرعة. كل إهانة، كل ولادة جديدة، كل نزاع، كل نظرة حب، كل لمسة، تُلفت النظر بسرعة. السجادة الجميلة البغدادية التي فرشها لنا سامي تحولت إلى بساط ساحر، ليس بسبب جمال النسيج وأصالته الذي حاك قصته منه وحسب، بل أكثر من ذلك، بسبب كل التفاصيل الصغيرة، التي وضعها بعضها إلى جانب بعض، تلك هي قوة رواية فكتوريا، فهي التفاصيل الصغيرة هذه (وأكثرالناس يميلون إلى طمسها، خصوصاً أولئك الذين يخجلون من ماض يعتقدون أنهم انتهوا منه بسرعة) التي تجعلها أكثر إقناعاً في حديثها عن التفاصيل الكبيرة، كل تلك الوقائع والأرقام والأحداث "الحيادية" و"الباردة"، التي هي من شأن المؤرخين وعلماء الاجتماع عادة.
*القيت الكلمة في حفل تكريمي للكاتب سامي ميخائيل في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا بمناسبة صدور طبعة خاصة بالإنكليزية لروايته "فكتوريا".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram