"تتوجه هذه الاطروحة نحو قلب المدينة الحضري ، نحو تراث مدينة بغداد وتاريخها ، نحو كرخها ورصافتها ، ومن خلال بحثي وجدت ان مشروع التنمية المستدامة ، عندما يأتي وقته لينطلق ، فان هذه الانطلاقة من قلب المدينة هي مجرد بداية ، لا بد لها ان تمتد لتشمل كل أنح
"تتوجه هذه الاطروحة نحو قلب المدينة الحضري ، نحو تراث مدينة بغداد وتاريخها ، نحو كرخها ورصافتها ، ومن خلال بحثي وجدت ان مشروع التنمية المستدامة ، عندما يأتي وقته لينطلق ، فان هذه الانطلاقة من قلب المدينة هي مجرد بداية ، لا بد لها ان تمتد لتشمل كل أنحاء العاصمة.
المهندس المعماري مروان فتة
- من الدراسات النادرة ، التي هي بمثابة مشروع قابل للحياة ، اطلعت على الاطروحة التي تقدم بها مؤخراً المهندس مروان فتة لجامعة بوخارست ، لنيل درجة الماجستير في التخطيط العمراني . فهذه الدراسة هي في الواقع ، تنطلق من مقدمات واقعية وعقلانية لإعادة الروح الى مدينة بغداد من خلال التوجه نحو اعادة تأهيل مركزها التقليدي .
تقوم هذه الأطروحة على أربعة عناصر هي :
١- إصلاح مجرى نهر دجلة وإعادة بناء القنوات المائية التي ستسهم في معالجة منظومة من المشكلات من بينها شحة الطاقة الكهربائية ، وكذلك أزمة النقل ، عبر الإفادة من وسائل النقل المائي .
٢ - تنمية الشبكة الاقتصادية للمركز ، من خلال اعادة تأهيل الاسواق التجارية القائمة ، وبناء مراكز تجارية جديدة حديثة الطراز ، وتطوير منطقة سياحية جاذبة على ضفتي النهر .
٣- معالجة مشكلة أزمة السكن من خلال تبني اُسلوب البناء العمودي لتشييد مجمعات سكنية مناسبة .
٤- توسيع المساحات الخضراء التي تقل نسبتها حاليا عن 3% في منطقة هي قلب مدينة بغداد .
وتسير هذه الاطروحة باتجاهين متوازيين مهمين ومركزيين هما : المخطط العمراني ، وتخطيط وتحليل التفاصيل المعمارية لكل من المباني التجارية والسكنية والسياحية .
وبعد مقدمة سردية عن تاريخ المدينة وطبيعتها المورفولوجية ، يطرح الباحث السؤال الأهم هنا وهو : كيف نستطيع تدشين مشروع واقعي في بغداد ؟
لذلك ، يسعى البحث نحو معرفة عميقة عن منطقة التطوير ، معرفة تاريخية وتراثية ، تقرأ في النسيج الطبيعي وتطوره عبر الزمن ، ثم معرفة الامكانات المتاحة للمباشرة بعملية التطوير .
- من اجل اغناء بحثه ، يتناول الباحث مجموعة من الأبحاث والدراسات العالمية الحديثة في التخطيط العمراني ، التي أعدها أهم مبدعي العمارة والتخطيط الحضري في القرن الماضي ، من بينها دراسة روي عام 1975 ودراسة فيلدر 1978 وسي بورلن 1980 ودي أنطوني توغنات 1987 وفنتوري 1996 وسواهم .
// ان الرقعة الجغرافية التي حددها البحث كمساحة لمباشرة المشروع والتي تقدر ب 22 , 2 مليون متر مربع ، هي حقاً تمثل مركز مدينة بغداد وقلبها الحيوي ، حيث تغطي اهم مناطقها التاريخية من باب المعظم ، وشارعي الرشيد والجمهورية في الرصافة ، ومنطقة الشواكة ، التي يحدها شارع حيفا في الكرخ ، و التي تمثل المدينة القديمة بكل تجلياتها التاريخية وعصورها الثقافية . وتضم بين جنباتها اهم ملامحها العمرانية ومراكزها التجارية الواقعة على جانبي نهر دجلة .
// يتوخى هذا المشروع الطموح ، عدة أهداف من أهمها : الحفاظ على المباني التاريخية الفريدة ، التي تتوزع على جانبي نهر دجلة ، وتأمين سكن لائق وحديث لسكان هذه المنطقة ، التي تحولت مساكنها تدريجيا آلى خرائب غير مأهولة ، أو مخازن تجارية متهالكة ، لا تتوفر على أدنى شروط الحياة الحديثة ، ويقترح البحث انشاء مجمعات سكنية بديلة ، تبنى عموديا لتستوعب اكبر عدد من هولاء السكان ، مثلما توفر مساحات إضافية ، يمكن استغلالها كفضاءات عامة وخدمية ، على ان تلبي هذه البنايات الجديدة ، الشروط الثقافية للعمارة البغدادية وبيئتها . بالاضافة الى اعادة تأهيل المركز الاقتصادي لهذه المنطقة الحيوية من بغداد ، والتي تضم اهم أسواق بغداد التاريخية ومركز نشاطها التجاري .
// من اجل تحقيق هذه الأهداف ، يقدم الباحث مجموعة من الاجابات العملية ، التي تمليها شروط عمارة الحداثة والتخطيط العمراني المعاصر في العالم ، وهي مجموعة معالجات واقعية ، تستمد واقعيتها من ظروف البيئة ، والمواد المتاحة ، و ثقافة المكان والامكانات المتيسرة ، ومن بين هذه المعالجات يقدم البحث حلولا مستدامة لمشكلة النقص في الطاقة الكهربائية ، الذي تعانيه بغداد بشكل عام ، حيث يقدم حزمة خيارات من وسائل انتاج الطاقة البديلة عبر إمكانية الإفادة من جغرافية المكان وقربه المباشر من ضفتي دجلة ، التي بالإمكان كما يذهب الباحث مروان فتة ، بناء سدود قادرة على توليد كميات من الطاقة تسد حاجة المشروع ، ومن ثم تحويل منطقة السدود هذه الى حدائق توسع هامش المساحات الخضراء واستثمارها كمناطق ترفيهية وسياحية في ذات الوقت .
البيت البغدادي - الحوش والمجاز ودورة الهواء
// يقدم البحث قراءة في الظروف المناخية لمدينة بغداد ، التي تقع ضمن منخفض جوي تقل فيه حركة الرياح ، بخاصة في فصل الصيف وشمسه الحارقة ، من اجل ذلك ، يطرح مقترحا تصميميا يستجيب لهذه الظروف .
// فمن الناحية الشكلية هو يفترض مجمعات سكنية من ثمانية طوابق ، تأخذ من زقورة آور التاريخية شكلها الخارجي، الطابق الأرضي ليس سكنيا وإنما هو من حصة المحال التجارية التي تلبي حاجة المجمع ، حيث تتوزع الوحدات السكنية في الطوابق السبع الاخرى بمساحات وتصاميم مختلفة ، وكل طابق لديه خاصية تصميمية مختلفة عن سواه ، وكل بناية لها طابعها الخاص اعتمادا على نوعية السكان وحالتهم المعيشية ، بالاضافة الى تصميم الهرم المعكوس ، الذي يوفر اكبر كمية من الظل لواجهة البناية ، حيث يعتمد التصميم هنا على إمكانية خلق دورة متكاملة لتيار الهواء ، وإمكانية اعادة تدوير المياه ، وتقليل مساحة التعرض للشمس ، وتوفير مساحة خضراء مناسبة في الفضاء العام الداخلي لكل وحدة .
// من هنا يأتي التصميم ليوفر عوامل بيئية مثالية فمثلا هناك تياران للهواء ، احدهما يأتي من الممرات الداخلية المظللة خارج المبنى ، والآخر بين طرق المشاة الضيقة والتي تحافظ بسبب من هذا "الضيق" على مساحات لا تمكث فيها أشعة الشمس طويلا .
// ان المقترحات التصميمية ، التي وضعت بشكل أساس لمواجهة الظروف البيئية القاسية ، لا تخلو من تلك الجمالية المعمارية حيث تستمد لغتها من فكرة الحوش البغدادي ،والمعالجات التي ابتكرها البناؤون البغداديون لأماكن عيشهم وحركتهم ، تضاف اليها اللمسات الحداثية التي توضحها التصاميم المرفقة هنا .
// لحسن الحظ ، ان نخبة من طلبة الشهادات العليا في العمارة الذين يدرسون اخر كشوفات الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري في بعض اهم الجامعات العالمية ، يباشرون الان مراجعة مقترحات زميلهم بشكل يومي ، وابداء الملاحظات الفنية عليها بالتفصيل ، للوصول بهذا البحث الى نسبة عالية من إمكانية التحقق الواقعي ، نور مكية من الولايات المتحدة ، مروة الدبوني من المانيا ، اروى الجميلي من الامارات ، محمد الصوفي من إيطاليا ، تراث جميل من فرنسا ، احمد ملاك من بريطانيا بالاضافة الى مروان فتة كاتب الاطروحة ، التي حصل بموجبها على شهادة الماجستير من جامعة بوخارست في رومانيا ، هولاء جميعا أسسوا مجموعة أطلقوا عليها (بغداد 21 ) تعمل على تشكيل رؤية معمارية حديثة لتطوير بلدهم وعاصمتهم .
هذه النخبة المبدعة التي تمثل اخر اجيال العمارة البغدادية ، يعمل أعضاؤها من مغترباتهم البعيدة من اجل اعادة الاعتبار لمدينتهم التي للاسف الشديد ظلت توصف ولاكثر من عقد من الزمن ، كأسوأ مدينة للعيش في العالم وتعيش نوعا من الاهمال الذي بات يتهدد هويتها بشكل غير مسبوق . بمشروعهم الطموح هذا ، بتلك البداية الموفقة ، والمفتاح السحري لإعادة إعمار بغداد عبر ضح الدماء في قلبها من جديد ، سيكون بإمكاننا الحديث عن ولادة جديدة لبغداد ، ولادة عراقية تقترحها تلك العقول المبدعة من المعمارين الشباب ورثة مدرسة بغداد للعمارة .