كنت حزينا ما فيه الكفاية، أمس، أحزنني تذكر مقتل حارس مقبرة الحسن البصري، الذي التقيته ذات يوم، من العام 2010، كنت عنده زائراً، متفقدا المقبرة التي تضم العشرات من الاسماء المعروفة، لأعلام المدينة، فضلا عن انطباقها على مئات الآلاف من الموتى البصريين. المقبرة التاريخية، الحسن البصري او غيرها، أي مقبرة في الأرض لم تعد مكانا تقليدياً، يأوي اليه من تنازل عن الحياة لصالح موته ، او مبيتا دائما لمن ضاق العيش بهم إلى جوار الأحياء التعساء، الذين لم يجدوا في الحياة المعنى الكامل لوجودهم، فطلبوا من اهليهم الدخول في التراب، والسكن الأبدي، حيث لا الصوت يؤذي ولا البصر يكل.
كان أبو ماجد، أو الملا رياض قد غادر مدينة الفاو ذات ليل بعيد، بسبب الحرب مع إيران، غادر بساتين اهله، الأرض التي زرعها أجداده نخلا وفاكهة وحناء، حين كانت القذائف تترك نهرا وتغوص في بطن آخر، تهمل أو تمهل بيتا لتسقط على ثانٍ. حمل الملا امتعة قليلة، لم تكن الباص الخشب التي أقلته وأسرته واسعة ما فيه الكفاية، لم يكن وقت القذائف والبنادق متاحا لكي يحمل من أثاث بيته ما يكفي لإقامته التي ستكون طويلة في بلدة الزبير، البلدة التي لا تشبه الفاو، هناك حيث غابة النخل، التي يغمرها ماء المدد مرتين في اليوم والليلة، وحيث الشط الكبير واسع رحب تمخر مراكبه، رائحة غادية على الموج الأزرق ، وحيث الابقار فرحة تثغو، وقد عبأت كروشها حلفاءَ وقصباً ولوبياء. ترك ابو رياض مملكة من فاكهة ونخل وأعناب، ليحط في بيت قديم صغير، على طرف الصحراء، من أملاك ألميسورين النجدين، الذين لم يرق لهم العيش في الزبير، فغادروها مسرعين، عائدين إلى موطن اجدادهم، حيث الرمل والحصى والرياح مأوى وسكناً دائمين.
ذات يوم، كنت صحبة كتاب ومثقفين بصريين نزور مقبرة الحسن البصري، جلست أحدث الملا رياض عن قبور أسرة بيت النقيب وبيت قاسم باشا الزهير وعن قبور كبار أمراء الزبير وابي الخصيب والملاكين وأصحاب بساتين النخيل ومزارع الطماطة والثوم، عن الذين ماتوا في البحر والبر أو سقطوا من عاليات النخل، ثم أني سالته عن قبري الشاعرين بدر شاكر السياب ومحمود البريكان وسواهما، فراح يحدثني عن ما هو أبعد من ذلك، فقال شيئا كثيرا أو بعضا من شيء، عن الذين ماتوا حتف أنوفهم، ومثل ذلك قال عن الذين ماتوا في الحروب الطويلة، أوعن الذين سقطوا في معارك الطوائف المجهولة، ولم يبخل عليّ برواية ميتةِ أحدٍ من أبناء المدينة، التي راحت تشيع الكثير من أبنائها الذين ما انفكوا يقتلون برصاص المجهولين، عبر سنواتها العشر الماضية .
يقول من عاين جثته، أن راس الملا رياض كان مهشماً، وانه شاهد قنينة غاز فارغة ملوثة بالدم، - ربما كانت من دمه- كانت قد تُركت في محل مصرعه (المقبرة) حيث يقيم، فقد كانت بيته الأخير، فهو منذ أن تخلى عن دراجته الهوائية ظل يتنقل بين مهجعه عند بوابة المقبرة وبين القبور على دراجة بخارية، كثيرة العطلات، لطالما كان الدليل الوحيد لمن يبحث عن قبر مجهول، بعثرت السنون شاهدته، أو أزيح بفعل قبر جديد. هو ذاته في الليل وهو ذاته في النهار، لا يعرف من الأمكنة اكثر من معرفته بالمقبرة، يستشعرها قبرا عن قبر، شاهدة عن شاهدة، حتى القبور التي لم يكن شاهداَ على دفن مواتاها، فهو يحفظ الأسماء والتواريخ ووجوه الزائرين، هكذا دونما الرجوع لسجلات الوفيات، يطوف بك على دراجته إن كنت لا تستطيع مشيا اليها، ثم يقف بك عند ضالتك قبرا كان او ضريحاً، شجرة كانت أو حبة رمل. يقرأ منك قسمات وجهك ليعرف من قُبرَ من ذويك هنا، فهو آخر من ينظر في وجوه موتى مقبرته.
في ذكرى حارس المقبرة
[post-views]
نشر في: 14 مارس, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
عادل السرحان
شيءمثير للحزن فعلا انه حارس مقبرة الحسن البصري وابن سيرين هو ليس شخص تعرض للاغتيال وحسب ان المقبرة تتعرض للاغتيال كذلك والموتى يتعرضون للاغتيال من جديد اعيان البصرة ابنائها غربائها الذين دفنوا فيها على مر التأريخ من مروا بذكرياتهم من مروا ولم يلتفت اليهم