غالبا ما يُصنف نقاد المدرسة الأكاديمية الثنائية الاصطلاحية في (القاص/ الروائي) على انها تحولات طبيعية لتقارب الجنسين السرديين، نشهد ذلك التحول واضحا في انتقال القاص الى التجريب في السرد الروائي ثم يغادره ليذهب مجددا الى واحة القصة القصيرة التي تنسجم
غالبا ما يُصنف نقاد المدرسة الأكاديمية الثنائية الاصطلاحية في (القاص/ الروائي) على انها تحولات طبيعية لتقارب الجنسين السرديين، نشهد ذلك التحول واضحا في انتقال القاص الى التجريب في السرد الروائي ثم يغادره ليذهب مجددا الى واحة القصة القصيرة التي تنسجم مع الأحداث القصار يدخلها بمختبر التكثيف ونوع التجريب في اختزال الحدث المتوافق مع اسلوبية الجملة المناسبة مع تدفق المعنى.. فالسحر الذي تضفيه القصة القصيرة هو الذي يجذب الروائي للعودة بين فترة وأخرى بحنين الى كتابة القصص بعد أن كثّف اشتغالاته تحت اشتراطات الروائية الجاذبة أيضا..
ذلك ينطبق على القاص/الروائي محمد علوان جبر الذي أصدر مجموعته الجديدة (تراتيل العكاز الأخير) عن دار عدنان للطباعة والنشر، وقد جاءت بثلاث عشرة قصة قصيرة يكون فيها الفضاء المهيمن هو ذاكرة الحروب ودراميتها المستمرة الى يومنا هذا.
أما القصة التي أتناولها هنا فهي التي تصدّرت عنوان المجموعة – تراتيل العكاز الأخير- وهي القصة الأكثر تأثيرا ووقعا على القارئ، وقد تكون هي الأقرب للقاص من بقية قصص المجموعة.
حكاية القصة ترويها امرأة بطريقة التداعي المعتادة.. وذلك التحول الأخطر على الرواي في تداعيات امرأة رجل ميت.. لكن محمد علوان تمكن بيسر من عبور حاجز التمثيل النسوي والغور في أعماق تلك المرأة.. حيث نادرا ما نشهد هذا النوع من التمثلات، القاص الذي يتلبس أحاسيس الأنثى أو القاصة التي يكون بطلها رجلا..
كذلك استطاع القاص اللعب على محور التكثيف القصصي الحديث برشاقة، ليس بطريقة الاختزال اللغوي فحسب، إنما في ضغط فضاء الحدث ككل ثم بمحاولة ذكية لترميز الحدث على طريقة الضربات الواخزة للقارئ.. فقد جعلنا القاص نشاهد لوحة مكتوبة بألوان الرسم.. اذا ما اعتبرنا هذه القصة درسا تجريبيا في ضغط الذاكرة ونسج حكاية لها، ومهما كانت هذه الحكاية.. أقصد حكاية هذه القصة تحديدا التي اختزلت معاناة جيوش النساء الأرامل التي تركتهن الحرب وحيدات في عالم ذكوري محض من المعاقين. بعد أن رسم لنا القاص خيطا وحيدا من الدم على مد تاريخ الحروب عندما يتحدث عن شجرة سدر وحيدة مقابل بناية الأطراف الصناعية لمعاقي الحرب وتلك هي خلفية اللوحة القصصية المرسومة..
تجتمع مجموعة المعاقين يوميا وهوايتهم الوحيدة في تبادل الأطراف الصناعية بعد أن نفدت في المشفى القريب من شجرة السدر.. يذهب احد المعاقين صباحا الى بيت صديقه المتوفى المعاق ليطلب طرفه الصناعي.. وتلك طريقة مبتكرة للاستحواذ على أطراف الميتين منهم.. تمتنع زوجته بادئ الأمر وتطلب فترة يومين لتنظر في الأمر.. ثم في درامية موجعة تذهب الى مقرهم تحت شجرة السدر وتسلمه الطرف الصناعي ملفوفا بقماش كالجنين.. لكن القصة الأكثر تأثيرا تبدأ بعد هذا الحدث عندما تنام على السرير وتبدأ موجة الحلم الموحي وتترادف عليها الصور والايحاءات.. تجد الرجل الذي أهدته الطرف الصناعية موجودا في حديقة المنزل وهو ينظف الحديقة ويعيد لها الحياة.. تلم هي الصفحة الثانية من لوحة الرسم القصصية.. أي معنى مستتر تحت حدثية مؤلمة اختصرت معنى عبث الحروب هذه؟؟ عندما يتحول الطرف الصناعي الى عضو من أعضاء الجسم او هو الشخص نفسه بكل تاريخه وذاكرته.. تلك الجدلية الفلسفية التي احكم أطرافها القاص، فالقصة/ اللوحة اختزلت الحرب دون رصاص ودم وقرقعة.. لقد اخذ القاص مشهدية صورية لخلفية الأحداث وقد أجاد في ايصال بشاعة الحرب دون قرقعة السلاح ومشهد الدم..
شهدت القصة محطات للتأمل والاستكانة، قد أتاح القاص فضاء آخر لمحاكاة القارئ عبر ذاكرة الحروب.. لم تكن اللغة انفعالية بل تسللت بإيقاع هادئ وبلغة البوح وعبر حوارات مقتضبة موحية استطاع بها أن يجعلنا نتحسس أطرافنا خوفا من الفقدان المحيط بنا..