قبل ٨٥ عاما تقريبا، يحلم ملك فتي بالمؤاخاة بين عشرات الجماعات اللغوية والدينية والثقافية في بلاد بين النهرين، لينشئ بلدا واعدا على انقاض كل حكايات ألف ليلة وليلة التي تلاشت مع اهلها قبل ذلك بكثير.
وبعد سنوات من جلوسه على العرش، والتفكير ملياً مع الباشوات والأفندية ورجال الدين وزعماء القبائل والحلفاء الاجانب والجيران.
يكتب الملك فيصل الاول ما يشبه التوصيف المؤلم لحال البلاد، حد ان تشعر انه يائس، لولا انه ملك لا يليق به اليأس. وفي الرسالة الشهيرة التي بعثها الى ممثلي الجماعات والطوائف والاحزاب، يقول ان طريق الانقاذ يتطلب مناقشة ١٥ نقطة، تبدأ من الاهم وتنتهي بالاقل اهمية، وضمن اول خمس نقاط مهمة يضع الملك عبارة مسبوكة بلغة الادارة الاسلامية العثمانية القديمة، قائلا ان ازدهار البلاد يتطلب "زيادة مأذونيات مجالس الالوية والمتصرفيات، ليُقبل اهلها على المشاركة في الحكم". واذا ترجمناها بتعابير اليوم فان فيصل بن الشريف حسين كان يرى ان البلاد لن تزدهر إلا اذا قامت السلطة بتوسيع صلاحيات مجالس المحافظات، كي يشعر اهلها بأنهم يعيشون في ظل نظام سياسي يمثلهم ولديهم كلمة وقرار فيه، ومشاركة اصيلة في صنع سياساته.
يقول الملك انه كتب الرسالة التي تحولت في ما بعد الى وصية، كي يوجهها الى عدد محدود من اهل الرأي والعقل. وانه ينتظر جواب الباشوات وممثلي الجماعات كي توضع خطة للتقدم. لكن الملك رحل وجاء بعده ملوك عقلاء وسلاطين مجانين وزعماء بين بين، ولاتزال رسالته او وصيته بانتظار اجابة مستقرة، ولاتزال البلاد تحلم بالتقدم والازدهار، بلا كلل او ملل، وآخر تطور طرأ في ملف مجالس المحافظات ما كشفه الوزير المختص قبل ايام من ان تسع وزارات تقترح تأجيل اللامركزية و"مأذونيات مجالس الالوية" حتى عام ٢٠١٧.
وإذا اعتبرنا وصية فيصل واحدة من اوضح واقدم وثائق الاصلاح السياسي في العراق الحديث، فانها ستكون صالحة لقياس الزمن المتباطئ في بلادنا، بحيث ان فكرة اللامركزية الادارية تتلكأ فيه نحو مئة عام، رغم انها كانت مطبقة فيه لقرون خلال العهد العثماني بشكل خاص، وإن بصيغة بدائية. كما ان حجم الأسى الذي تزخر به الوثيقة، وانا امر عليها للمرة الستين، يوحي لك بان الدهور لم تتغير، فهو يصرخ قائلا: اتمنى ان تحصلوا على مصنع زجاج بدل ان تشيدوا دارا فسيحة للحكومة او قصرا منيفا للملك!
واذا اعتبرنا طلب سنتين اضافيتين كمهلة لتنفيذ اللامركزية المجمدة منذ دستور ٢٠٠٥، مجرد ضمان انتقال سلس الى النظام اللامركزي، فان كثيرين سيؤيدون ذلك، لكن علينا تطمين المعنيين بان هذا لن يكون مبرر تسويف وتأجيل لثمانين عاما اخرى، وإلا فان تأخر الاصلاح الاداري والسياسي لن يتوانى عن اسقاط المزيد من العروش والكراسي والاحلام المشروعة وغير المشروعة.
إنّ في هذه البلاد املا بحجم البساط الاخضر الذي تكتسي به المدن هذه اللحظة، من جبال كردستان حتى شاطئ ابي الخصيب الذي امتلأ بالمتنزهين والمتنزهات نهار السبت احتفالا بالنيروز او النوروز. لكنّ في هذه البلاد ايضا قدرا من الجنون والانفعال قام بتذكير آلاف الامهات العراقيات في عيد الام، بأنهن فقدن المزيد من الابناء والازواج، في حروب غير مبررة لولا نقص الحكمة التي كان بإمكانها ان تقلل من حدة طعم الموت وتخفف من لون الكارثة ومستواها.
إن الحديث عن المؤامرات والمزيد من "الاجندات" مجرد مضيعة للوقت، فلا حل لكل المنطقة بعد سقوط مشروع الدولة، سوى ان تعيد قراءة وثائق الاصلاح السياسي العتيقة لتشعر كم تباطأ الزمان في هذه الممالك، وكم تسارع الخراب والموت، وكم مرة دخلت السعادة على قلوب كل خصم، بسبب تراخي اراداتنا وخشيتنا من ان نتصالح مع بعض، وان نجلس للحوار مع بعض، لنستجمع ما تتطلبه شجاعة صنع القرارات الكبيرة، للإجابة عن تساؤلات الملك القديم الذي ظل يفتقد أثرها نحو ٨٥ عاماً.
مأذونيات المتصرفيات بعد ٨٥ عاماً
[post-views]
نشر في: 21 مارس, 2015: 09:01 م