الجدل في الصحافة الغربية ينشغل بالحشد الشعبي والدور الايراني، الى درجة قد ننسى معها خطر داعش، وننسى معها ضرورات الاصلاح السياسي.
وقبل الحديث عن هذا اريد القول انني كنت من اوائل من كتبوا وتحدثوا داخل العراق عن ضرورة قصوى لمحاسبة كل الاخطاء والانتهاكات التي يرتكبها الجيش او الحشد او البيشمركة او اي فصيل عشائري ومحلي يقاتل داعش، وليس السبب في ذلك اخلاقيا بحتاً بل يتعلق بمعنى الشرعية الدستورية والقانونية التي تميزنا عن داعش، ويتعلق بمستقبل عيشنا المشترك، وايضا بنظرة العالم المتقدم الى ادائنا.
لكن علينا ان نتذكر مجموعة اشياء ونحن نواصل رصد اخطاء وانتهاكات المقاتلين، لان نسيانها بدأ يتسبب بانحراف سجالنا السياسي.
فينبغي اولا ان نتذكر ان المقاتلين هؤلاء لعبوا دورا كبيرا في تطويق خطر داعش، وجعلونا نؤمن بوجود امكانية لالتقاط انفاسنا وتصحيح اخطائنا، ومنحوا النظام السياسي برمته فرصة ان يثق بجدوى خياراتنا الاصلاحية التي تعزز شرعية النظام والدستور. ان الاهتمام بخطورة الانتهاكات هو جزء من اهتمامنا بدور المقاتلين المهم في اعادة التوازن العسكري الى البلاد، وهذا امر يجب ان لا ننساه.
وينبغي كذلك ان نتذكر التضحيات الغالية التي يقدمها مقاتلو كل التشكيلات المذكورة، سنة وشيعة وعربا واكرادا، وارواح احلى الشباب التي تزهق كل يوم، لادامة زخم الحرب، والوقوف بوجه خطر الارهاب. ان مطالبتنا بمحاسبة المنتهكين والمخطئين هي مطالبة بحماية سمعة هذه التضحيات الوطنية وكي لا نأخذ الابطال بجريرة المفسدين والانتهازيين او المنفعلين قليلي الخبرة.
لكن الجدل حول انتهاكات يقوم بها بعض المقاتلين، خاصة كما يبدو في الصحافة الاجنبية، يفقد بوصلته احيانا وينسى اصل المشكلة. ان ظهور التشكيلات المسلحة وصعود الدور الايراني، امور جاءت بعد الاجتياح المفاجئ لداعش، كما ان داعش نفسها جاءت بعد الاخطاء الرهيبة للفريق السياسي والعسكري لنوري المالكي، ولذلك فقد بدأنا خطوة صحيحة مع واشنطن وكل الاصدقاء، منذ حزيران الماضي، حين صرنا نردد ان الاصلاحات هي الانتصار الاستراتيجي على داعش، وبدونها لايوجد حل لمشكلة العراق حتى لو طردنا "الخليفة"، اذ سيظهر بعده الف داعش اخر مستغلا الفجوة بين اهل المحافظات الساخنة والنظام السياسي. وفي ضوء هذا سارت كل الامور. لكننا الان بدأنا ننسى، ورحنا ندخل في جدل حول مخاطر الميليشيات ومخاطر تصاعد الدور الايراني، واقول انه جدل يظل مرتبكا، لان مواصلة الضغط من اجل الاصلاحات هي العامل الوحيد الكفيل بتطويق مخاطر السلاح ومخاطر النفوذ الاقليمي غير المتوازن.
لا يمكن ان نضمن ما ستكون عليه التشكيلات المقاتلة بعد سنة، اذا بقي النظام السياسي ضعيفا وعاجزا عن حسم خلافاته، وعاجزا عن ابرام صفقات التهدئة الاساسية. لكن بناء تفاهم فيه الحد الادنى من الصواب، سيطوق معظم اخطار فوضى السلاح، وسيعيد توازنا نسبيا لعلاقة العراق مع محيطه الاقليمي والدولي لمعادلة اي نفوذ لايران. وسيمنح الاحزاب العراقية ثقة بالنفس من اجل حسم قضايا اخرى، ويقوم بتعريف دور اوضح للعراق ينبغي احترامه من الجيران.
الانشغال بالحشد الشعبي وايران، يمكن ان يجعلنا ننسى اصول المشكلة واصول حلها. والنسيان هذا سيكون في صالح فوضى السلاح وفي صالح اي طرف يريد اساءة استغلال الفوضى.
ان التنديد بايران ومظاهر التسلح لن يكون حلا، بل سيجعل المتشدد اكثر تمسكا بتشدده، وسيؤدي لاضعاف تيار معتدل في السلطة، في وسعه استثمار العلاقات الجيدة مع العالم المتقدم ومع الشركاء في الداخل، لخلق الثقة المطلوبة، وتصحيح الادوار. وشيء من هذا يمكن ان يحصل بالاتصالات الطيبة مع الجوار العربي وعبر تمسك بتحالفاتنا الدولية. اما ترك العراق بمفرده والاكتفاء بالتنديد فهو مجرد هدية كبيرة لفوضى الموت والسلاح، وهي فوضى تضر الشيعة قبل السنة، والعرب قبل الاكراد.
ان المطلوب اليوم اعادة الجدل السياسي الى مساره الصحيح الذي انطلق في الخريف الماضي، قبل ان يتعاظم النسيان.
انشغال بالحشد.. وانحراف
[post-views]
نشر في: 23 مارس, 2015: 09:01 م