يتصل بي مدير البيت الثقافي في البصرة الاستاذ عبد الحق المظفر ليعلمني بان وزير الثقافة ووكلاءه في زيارة خاصة للبصرة، فيخطر في بالي ان الزيارة تأتي تحضيرا للاحتفال بالبصرة عاصمة الثقافة العربية، لذا وددت ان ادبج لهم الورقة هذه علَّ من يقرأها، وزيرا كان او وكيلا أقدم او مديرا عاما، يتنبه إلى ما أشرنا له في اكثر من مادة وفي اكثر من وسيلة إعلامية، بأننا نشعر معهم بأن مسؤوليتنا مشتركة، وان مشروع البصرة عاصمة الثقافة العربية، أكبر من أن تقوم به جهة بعينها. هو مسؤولية وطنية كبيرة.
ولأننا لا نملك حاضرا مشرفا، ذهبنا الى خمسينيات القرن الماضي، حين زار الملك فيصل الثاني قضاء ابي الخصيب، ووقف الشاعر والمربي البصري، الخصيبي المرحوم عبد الباقي لفته الطه بين يديه منشدا قصيدته :(الشطُ يهزجُ والنسائمُ تلعبُ والنخلُ في الدوحِ الاثيلِ مطربُ والروض سُربل بالاقاحِ منورا والبلبل المسحور فيهِ يخطبُ وروافد الانهار عين فجرت فيها اللجين مناهلُ لا تنضبُ) ووو
ومن خلال الابيات البسيطة هذه نجد أن الشاعر لم يأت بجديد في تأثيث قصيدته ، فالشط يهزج، أيما، نعم يهزج بماء حلو عذب، والنسائم بكل تأكيد، تلعب بالنخل، والدوح الحمام مطرب يغني فرحاً، كذلك توصيف الروض وقد سربل بالاقاحي ومثل ذلك صورة البلبل والانهار العيون التي تفجرت عن ماء لجين لا ينضب. لقد ذهب ذلك كله، خلاص، لم يعد له وجود في البصرة، اختفى كل شيء.
يقول صديقي في الشعر والصحافة والمواطنة ناصر الحجاج بأن إيران تنتج ربع ما ينتجه العالم من الرمان، فأقول وهي تنتج معظم ما تحتاجه منطقة الخليج والعراق من الطماطم والخيار والباذنجان والبرتقال والتفاح والجبن بأنواعه وووو. وهي الاول في العالم في تعليب الفواكه المجففة، وهي بلد سياحي بامتياز.
وفي نابولي بإيطاليا قدّم لنا نادل المطعم قطعة صغيرة من جبن نادر لديهم، مع ما قدّم على المائدة، لكنَّ مضيفنا أعلمنا بان إدارة المطعم سترفض طلبنا لو طلبنا قطعة أخرى، فالجبن هذا فاخر جداً، ثمين وغير متاح للجميع. وفي كل مكان بالعالم هنالك من يتحدث عن بضائع ومنتجات نادرة حرص أصحابها على تداولها والعناية بها ومن ثم تسويقها بوصفها هوية خاصة، تمثل لديهم موروثا ما، يتقدم سمعة المدينة .
وفي متاحف العالم يمنعون لمس وتصوير المقتنيات المعروضة، وفي أماكن أخرى يمنعون الكلام بالصوت العالي ذلك لأن معروضات المتحف تتلف باللمس والتصوير والصوت العالي، بحسب تعبيرهم وهنالك، في كثير من مدن العالم المتمدن هارموني يجمع ويوحّد ما بين صورة الحياة العامة في الشارع والسوق وبين معروضات المتحف الخاص بالمدينة. هناك حرص شعبي ورسمي على إدامة صور المدن التاريخية في أذهان السكان والسياح معا، فالمتحف صورة واقعية والحياة صورة متحفية في آن. ليس في الأمر بطر ولا تزجية وقت، إنما تلك مسؤولية إنسانية قبل أن تكون وطنية. لم تعد قرية ما، أي قرية في اقصى العالم خاصة أحد من الناس، بلاد ما، هي إرث وملك انسانيان.
بالأمس مررت بقبة مرقد الشيخ محمد أبي الجوزي، التي على الطريق بين البصرة وأبي الخصيب، وقد أحيطت بعشرات العشوائيات، بيوت ومحال، وقد امحت القبة التي كانت الى جوار المرقد، سويت بالأرض وبنى احد المتجاوزين منزله عليها، اليوم يقرض جيرانه جدار القبة الباقية، على امل سقوطها لتتحول الى منزل عشوائي آخر. وقبل أكثر من خمسين سنة أزيلت عشرات التلال الصغيرة في البصرة وابي الخصيب بخاصة، تلال الملح والسباخ التي جمعها وكومها أصحاب علي بن محمد(صاحب الزنج) اولئك المجهولون الذين ثاروا على ظالميهم في الواقعة المعروفة، أزيلت التلال وازيل معها مئات الآلاف من القصص والحكايات.
تبحث في الانهر وأقاصي البساتين وفي ما تبقى من مخازن نهير الليل والخندق عن سفينة واحدة(مهيلة) من السفن التي ظلت لمئات السنين تنقل آلاف الأطنان من التمر بين البصرة والهند وعدن وسواحل الجزر البعيدة فلا تجد واحدة، تدخل مخازن سكة الحديد ومثل ذلك معامل الطابوق وبيوت الطبقة الراقية والمدراس القديمة والمؤسسات العريقة فلا تجد مما في بالك شيئا. نحن أمة أضاعت ماضيها مثلما ضاع حاضرها ومستقبلها.
البصرة عاصمة الثقافة العربية!!!
[post-views]
نشر في: 24 مارس, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
Anonymous
رحمك الله يا جدي عبدالباقي لفتة كان شاعر فذ يحفظ شعره ويتغنى به حتى آخر أيام حياته وقد ناهز ال ٩٧ عاما