قصة مدينة ترويها البنايات
"العمارة هي أم الفنون . من دون عمارة خاصة بثقافتنا ، فان حضارتنا ستكون خاوية وبدون حياة "
فرانك لويد رايت .
" عمارة الحداثة في بغداد - هي ذلك النشاط البنائي الذي بدأ يظهر جلياً في المشهد المعما
قصة مدينة ترويها البنايات
"العمارة هي أم الفنون . من دون عمارة خاصة بثقافتنا ، فان حضارتنا ستكون خاوية وبدون حياة "
فرانك لويد رايت .
" عمارة الحداثة في بغداد - هي ذلك النشاط البنائي الذي بدأ يظهر جلياً في المشهد المعماري البغدادي والعراقي ، ابتداء من عشرينات القرن الماضي ، اي بالتساوق مع تأسيس الدولة العراقية أوائل خريف 1921 , وكان ظهوره متسما بالجدة والاختلاف ، وحتى القطيعة عن سياق الممارسة البنائية السابقة له."
الدكتور خالد السلطاني
// بعض الكتب تأتي على هيئة احداث ثقافية ، تاريخ الأشياء قبل صدورها ، لم يعد كما هو من بعد صدورها ، هكذا وجدت كتاب الدكتور خالد السلطاني الصادر مؤخراً تحت عنوان ( عمارة الحداثة في بغداد - سنوات التأسيس) ، حيث وضع المؤلف بين أيدينا اول كتاب منهجي يتوجه للذاكرة المعمارية والعمرانية لمدينة بغداد ، بمعنى اننا اصبح بإمكاننا ان نعرف منابع افكار عماراتنا ، التي شكلت او كادت تشكل نمط حياتنا ، وكان ونستون تشرشل يقول " اننا نصمم المباني التي تصمم طريقة حياتنا ."
// أصبحنا نعرف نتاجنا الحضاري الحديث ، وصار لدينا ارشيف أولي عن قصة هويتنا المدنية . ارشيف كتبه معماري واكاديمي خبير ، و لحسن الحظ ، انه مهموم بشكل عميق بالعمارة البغدادية ، مهموم بشكل حزين ايضا ، للمآلات التي أضحت عليها تلك الشواخص المهملة .
// يميز المؤلف بين مرحلتين مهمتين، يرى أنهما شكلتا مفهوم ومضمون عمارتنا الحديثة ، تبدأ المرحلة الاولى في عشرينات القرن الماضي حتى الأربعينات . بينما تبدأ المرحلة الثانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الخمسينات . وهو بظني تقسيم واقعي وقد وفق المؤلف بشكل جيد في تبريره تاريخيا وفنيا .
// وقبل ان يباشر المؤلف رحلته في هاتين المرحلتين ، اجرى مسحا ممتعاً لجذور العمارة في العهد العثماني ( وقبلها احيانا ) ، متلمسا أسس (القطيعة الابستملوحية ) بينها وبين عمارة الحداثة ، راصدا تغلغل الأفكار والممارسات التي تمكنت من التسرب من عمارة ما قبل الدولة الحديثة الى عمارة ، الحداثة ، ليقرر فيما بعد ، انه ليس بالإمكان التاكيد على خط فاصل صريح وحاد ، او ( قطيعة حقيقية ) مع ما تركته عمارة ما قبل الدولة مع العمارة التي انجزت تحت رعايتها . ولكي لا يتوه بعيدا في تلمس جذور هذه العمارة ما قبل الحداثية ، فانه يضع خطا فاصلا نسبيا لدراسته ، يبدأ من الربع الاخير للقرن التاسع عشر حتى لحظة دخول القوات البريطانية الى بغداد عام 1917 .
// بعد معاينة تاريخية سريعة على اولى ارهاصات التحول المدني في المجتمع وعلاماته ، يتوقف الكاتب عند خطط الوالي العثماني مدحت باشا وإصلاحاته المعروفة ، ومن بينها قيامه بإدخال نظام السجل العقاري ( الطابو ) ، حيث يعد ذلك من اهم الاسباب التي شكلت بنية المدينة العمراني الجديد . لاسباب تتعلق بوضوح الملكية وحدودها ، ونهاية عصر العشوائية المفرط في التجاوز على الارض // كما لا يفوت المؤلف هنا ، ان يؤشر لنا اهم الخرائط الحديثة وأقدمها لمدينة بغداد ، انطلاقا من تلك التي وضعها رسام الخليفة سليمان القانوني لدى دخوله بغداد عام 1537 وتلك التي تركها الرحالة الدنماركي كارستين نيبور عام سنة 1766 ، مرورا بالخارطة التي وضعها الرحالان فيليكس جونس وكولينكوود في منتصف القرن التاسع عشر ، وليس انتهاء بالخارطة التي وضعها ساره و هرزفيلد سنة 1908 كآخر خريطة وضعت لبغداد قبل قيام الدولة .
// لم تتوقف السياحة التاريخية لعمارة العهد العثماني عند الخرائط والقوانين والتكنولوجيات ، التي بدأت تتسلل الى حياة العاصمة ، فثمة قراءات جمالية مشوقة لأهم المباني العمومية والدور السكنية ، لناحية تصاميمها ومعالجاتها وموادها وتأثيرات البيئة والمناخ على اطرزتها ، وهي بحق قراءات نقدية غير مسبوقة في الغالب ، تبين لنا تلك الحلول الفريدة التي ابتكرها (معماريو ) بغداد وحرفيوها من اجل عمارة تستجيب لبيئتها وثقافتها، و تعتمد المتاح والضروري في معالجاتها . مشيدا بخصوصيتها ونأيها عن الذوبان بالدخيل الوافد من ظروف وبيئات اخرى .
" القباب والمنائر القائمة في بغداد ، لم تتأثر بالطراز العثماني المستوحى من الفن البيزنطي ، برغم ان معظمها قد شُيد في فترات مختلفة من حكمهم الطويل لهذه البلاد , وهذا ما يؤكد لنا أصالة الفن البغدادي وقدرته على الامتداد والبقاء "
عمارة العشرينات .. الحداثة الاولى ، الدولة والعمارة .
// يرصد المؤلف في هذا القسم، الاسباب التي نتجت عنها عمارة الحداثة ، ويعزوها الى اهم خمسة أسباب وهي :
١- التحولات التي طرأت على البيئة البغدادية اثناء فترة الاحتلال البريطاني ، وتشكيل الدولة والمتطلبات التي أفرزتها تلك الظروف.
٢- حاجة بغداد كعاصمة لبلد في طور التشكل لمختلف المباني الإدارية .
٣- تأسيس دوائر عامة معنية مباشرة بالشان المعماري .
٤- ظهور المواد الانشائية الحديثة.
٥- وجود معماريين مهنيين مؤهلين اكاديميا لأول مرة على مسرح العمارة البغدادية .
يعد المؤلف هنا ، منجزات هذه الفترة بأنها الأهم في تاريخ بغداد المعماري الحديث ، ويطالب بالحفاظ عليها كجزء من الموروث الثقافي الذي انجزه العقل العراقي . لكنه يشتكي من ضعف المصادر التي تقودنا الى تتبع هذا المنجز وتعقب اثره بشكل اكثر دقة ، لاسباب متعددة تتعلق و بشكل أساسي بعزوفنا كثقافة محلية عن الاهتمام بالأرشفة والتوثيق .
حلم جيمس ولسون: صرح جامعي أم ضريح ملكي .
// كاد صرح - جامعة آل البيت - ومنشاَتها في الأعظمية ، ان يشكل حدثا معماريا فريدا ، فقط لو انه تواصل وقفز على تلك الظروف الغامضة ، التي حالت دون تنفيذه ، حيث يعد لاسباب متفرقة ، اول تصميم ثوري في عمارة الحداثة في بغداد . وقصة البناء التي بطلاها الملك فيصل الاول ، والمعمار البريطاني ولسون ، هي واحدة من قصص نجاحاتنا وخيباتنا المعمارية في آن ، اذ ان هذا المخطط العملاق ، الذي وضع حدا للاطرزة التقليدية البغدادية ، لناحية استحداث الفضاءات والممرات ، و التركيز على الأسلوب الوظيفي في بناء اول عمارة تخصصية في تاريخ الدولة الحديثة ، لتكون اول مؤسسة جامعية ، تهتم بتهيئة كوادر الدولة الفتية ، لم ينجز على النحو الذي اراده الملك والمعمار لاسباب غير واضحة .
// بالاضافة الى تناوله ظروف بناء الكلية الدينية ، وتأجيل باقي مرافق الجامعة ، فان المؤلف لا يفوته في هذا المجال ، تقديم تلك القراءات الأسلوبية للغة المعمارية ، التي افترضها للتصميم المفقود او للبناية الوحيدة القائمة منه . ولعل هذه القراءة "الجمالية – المعرفية" من القراءات النادرة التي يفيد منها كل المهتمين بالعمارة البغدادية في مجال التعاطي مع الظروف البيئية والمناخية والمواد والاستغلال الامثل لجغرافية المكان حيث الموقع الفريد عند منعرجات نهر دجلة . لقد انتهت تلك القفزة المعمارية الى مآل حزين وحل محل صرحها المركزي ضريح الملك ، كما لو ان القدر أراد ان يقدم درسا في العلاقة بين نهايات الأشياء ونهايات أصحابها .
عمارة الحداثة في الثلاثينات (عشية الحرب الكونية وأثنائها).
" اذا كانت عمارة العشرينات هي نواة الفكر المعماري الجديد المشوب بالقيم الحداثية ، فان عمارة الثلاثينات هي مرحلة نضوج تلك الأفكار وتكوين مبادئها وقيمها والتمتع بقطف ثمارها."
// وفرت عمارة العشرينات الارضيّة الثقافية و المزاجية لتقبل فكرة عمارة الحداثة التي كرستها عمارة الثلاثينات بشكل ملموس ، وبظني ( انطلاقا من تقريرات المؤلف ) ان هذا العقد هو لحظة مفصلية ليس على صعيد حداثة العمارة فحسب ، فان الاخيرة كانت تستجيب لشروط حداثية لبلد أخذ ينهض بسرعة من غفلة قرون طويلة من الزمن ، ليلتحق بالعالم الحديث ، وإنما هو لحظة فاصلة في تاريخ تشكل الدولة بشكل عام ، فالعراق هنا عضو مؤسس لعصبة الامم المتحدة ، ويتمتع بسيولة مالية مناسبة من جراء تدفق كميات تجارية من النفط ، ويبني باجتهاد مؤسسات الدولة التي جاء الوقت المناسب لتنفيذها .
// وكان لصدور قانون البلديات الذي شرع سنة 1931 وقانون الطرق والأبنية سنة 1935 آثارهما العملاقة على جميع مراحل تطور العمران والعمارة في البلد . مما جعل الظروف مهيأة امام صناع ومُبدعو عمارة الثلاثينات للعب دورهم الرئيس في هذه الانتقالة الثورية الى عصر العمارة الحديثة ، وصادف في هذا العقد ظهور اول مهندس معماري عراقي مؤهل اكاديمياً ، هو احمد مختار ابراهيم لتعقبه كوكبة من المعماريين الشباب ، أمثال حازم نامق وجعفر علاوي وعبد الله احسان كامل ومدحت علي مظلوم وسامي قيردار وسواهم .
بالاضافة الى المعماريين البريطانيين الذين اسهموا بشكل كبير في عملية التحديث هذه وكان لوجودهم كل هذا الاندفاع لبناء مدينة حديثة. .
// في هذه الفترة ، ظهر مطار بغداد عام 1931 على يد المعمارين البريطانيين ويلسون وميسون ، كواحد من مطارات معدودة في العالم آنذاك ، التي شيدت على أسس وظيفية حديثة ، لم تكن معروفة كثيرا في العالم حينها ، وربما هو اقدم مطار في المنطقة كلها .
// كما ظهر في مشهد المدينة هذا العقد ، اول جسرين ثابتين في بغداد ، ودشن اول قصر ملكي حداثي الطراز ، بالاضافة الى مبان مهمة من مثل المعرض الزراعي ، ومكتبة الأوقاف ، والضريح الملكي ، وكلية الهندسة ، كما شهدت بغداد لأول مرة في تاريخها ظهور الاعمال النحتية المستقلة ، كتمثال الملك فيصل الاول ، و تمثال الجنرال مود ، و تمثال عبد المحسن السعدون . ( رمزية هذه النصب تشير الى مراكز القوى التي تتحكم بالدولة حينها ، حيث الاحتلال البريطاني والعائلة المالكة والقبيلة .)
// في هذا الفصل ، قدم المؤلف واحدة من قراءته النادرة في مجال استنطاق لغة المباني ولهجتها المحلية ، في عمل توثيقي فريد ، وجهد واضح في الحصول على تفاصيل كادت ان تكون من حصة النسيان ، لولا تصديه بشكل شخصي لهذا المشروع الحيوي لانعاش الذاكرة والدفاع عن وجودها ، وباعتقادي فان عقد الثلاثينات ، يستحق كتابا لوحده من اجل مسح ذلك الثراء العمراني والمعماري ، الذي حدث في هذا العقد ، حيث ان الصفحات التي سطرها المؤلف هنا ، تستوعب أضعاف اضعافها من التأويلات الجمالية ، لكل تفصيل من تلك التي اضطر المؤلف على المرور عليها، دون ان يطيل التوقف عندها وذلك هو شرط كتاب بعنوان عريض وغير مخصص لعقد واحد .
// ان التنوع العمراني والمعماري ، سواء العمومي منه أوالسكني ، الذي شهده هذا العقد هو منعطفنا الاول نحو تلمس طريق المدنية الحقيقي والذي شكل فيما بعد الكثير من ملامح مدينتنا .