1-5
حضرة السيدات والسادة، الصديقات والاصدقاء
أشكر لجنة التحكيم برئاسة السيد هانز سفوبيدا ومعهد كارل رينر لمنحي هذه الجائزة الجميلة.
أنها بالفعل جائزة جميلة. ليس فقط لأنها أول جائزة كبيرة أحصل عليها، أو أنها اقترنت بقامة كببرة، كان السلام والتآخي بين الشعوب، مقاومة الديكتاتورية والعدالة الاجتماعية،هم ثوابت عنده، فذلك أمر مفهوم،أنها جميلة أكثر بالنسبة لي، للتوقيت الذي جاءت به، ولما جلبته لي من تداعيات، تقاطعات في الحقيقة، تُفرح كاتباً مثلي، كره حمل دفتر ملاحظات، شعاره الإبداعي: كل ما لا تحفظه الذاكرة، لا يصلح للقص! الذاكرة فيما خصني تحتاج فقط إلى ضغطة زر، حتى تنثال الحكايات مثل حنفية ماء، تجري وتجري،ليس لعطش استعادة ذكرى مضت، تنزل عذبة على قلبي، مثل من يرتوي بماء بارد في صيف حار، بل لأن سعادتي هي تقاسم تلك المتعة مع العالم، نوع من الكرم، أليس القص أصلاً هو كرم؟ أنظروا كيف يروي العشاق لبعضهم في الأيام الأولى لحبهما؟ جداول ماء عذبة، تشق طريقها إلى قلوبهم. ومن يروي، لابد له وأن يكتشف تقاطعاته مع الآخر. لكي لا نقول، الكثير من المصادفات، حسب صاحب "رجل بدون ملامح" النمساوي الجذور لكن الإنساني الهوى، موزيل، ليست هناك مصادفات، بل مجموعة احتمالات تتلاقى، أما شريكته بالمواطنة، انغبورغ باخمان، فتقول جملة : قصتي وقصتك متى تلتقيان؟
ألا ترون سيداتي سادتي، ها أنا كما في روايتي، لا أستطيع الحديث حتى بمناسبة تسلم جائزة، دون الوقوع في حبائل سرد "قصص متداخلة"، ذلك هو ديدني، لكن أليست حياتنا، هي "قصص متداخلة"؟ لتطمئنوا، أنا لا أعني هنا القصص الشريرة، لأن هذه ارتبطت بالإنسان، الحرب بالنسبة له وضع طبيعي منذ بدء الخليقة؟ طالما الإنسان يعرف نفسه كحيوان، فإنه يعيش من القتال، على حساب الآخرين، يخاف ويكره الآخرين، الحياة بصفتها حربا إذن، أغلب القصص الشريرة هذه نعرفها، ألا تدور حروب طاحنة اليوم في أماكن متعددة باسم الإنسانية؟ كلا، قصصي المتداخلة لكم تدور عن السلام، رغم اعترافي، كم يصعب تحديد ماذا يعني "السلام"، السلام شيء لا نعرفه، شيء نبحث عنه فقط ونستطيع أن نحسه. السلام موقف، مثال. عن المواقف والأمثال هذه ستدور قصصي المتداخلة. لكن قبلها أحذر: من لا يريد النوم مبكراً، عليه مغادرة القاعة الآن!
لنبدأ بتوقيت الجائزة: في يوم شتائي مشمس أشبه بيوم خريف بضيائه الفضي، في وسط مانهاتن نيويورك علمت بالجائزة، لتتخيلوا وقع ذلك عليّ، بقدر ما أفرحني الخبر، بقدر ما جعلني عاجزاً عن النطق، ليس للمفاجأة وحسب، أو بسبب أنني كنت أقوم برحلة استثنائية على جهة المحيط الأخرى بل أكثرلسبين آخرين. أولاً: لأنه جاء بعد يوم رحلة لها علاقة بالرواية المكرمة التي خططت لكتابة جزء ثان منها، سبب إقامتي الطويلة في نيويورك، هو للتعرف على أجواء الرواية، كان لابد أن أزور مدينة فورت ميد، 200 كم من نيويورك، في ميريلاند، مكان أول معاهدة "تسامح" أميركية، اليوم هي حصن عسكري، مقر منظمة غامضة يعرفها ويخشاها الجميع، "أن أس أي"، هناك جرت محاكمة برادلي، تشيلسيا مانينغ الآن، من قرأ الرواية، يعرف أن المارينز السابق الذي خدم يوماً ببغداد، الذي سلم مئات الوثائق لموقع ويكيليس، شكراً له، عرفنا بالجرائم السرية التي ارتكبها المارينز في العراق، هو ليس مجرد اسم زينت به العنوان الفرعي للرواية، بل بدونه ما كانت انتهت الرواية بالشكل الذي عليه. رحلة/مغامرة حقيقة تلك التي شاركتني فيها رفيقة الرحلة التي لم تخل من شجاعة، وهي تعبر بالسيارة نقطة تفتيش المدينة، أرفع قبعتي لها، فشلنا بالدخول إلى المدينة/الحصن، التي يُحرم الدخول للغير من سكانها (قرابة 100000)، أغلبهم يعملون للأن أس أي، أما متحف المدينة الذي وجدناه عذراً للزيارة نقدمه للحراس (وحده منظرهم يثير الرعب) والذي كبقية متاحف العالم، يُفترض فتح أبوابه للزوار،ممنوع دخوله دون كفالة أحد سكان المدينة.
يتبع
*( نص الكلمة التي ألقاها الكاتب باللغة الألمانية، بمناسبة تسلمه "جائزة برونو كرايسكي" العالمية للكتاب لعام 2014، عن روايته «بغداد مارلبورو»، في قصر بلدية فيينا في 9 آذار 2015. )