أسيرُ في أروقة معرض المدى الدولي للكتاب، في أربيل، كمن يسير في غابة من الكتب، يومئ ناشروها المتواثبون بين الأشجار إلى اقتنائها، استحباباً أو إرغاماً، بما يملكه سحر الغابة الورقي من جاذبية، وما يملكه سحَرَتُها الناشرون من قوة التأثير والتسلط، لكنني في
أسيرُ في أروقة معرض المدى الدولي للكتاب، في أربيل، كمن يسير في غابة من الكتب، يومئ ناشروها المتواثبون بين الأشجار إلى اقتنائها، استحباباً أو إرغاماً، بما يملكه سحر الغابة الورقي من جاذبية، وما يملكه سحَرَتُها الناشرون من قوة التأثير والتسلط، لكنني في جميع هذه الأحوال العقلية، كنت أشعر بشعور حيّ بن يقظان، ربيب ابن طفيل، الذي تركه على جزيرة عذراء، يكتسب المعرفة من خُلقه التربوي، وخِلقته الرعوية، ومثاله الأفلاطوني في اكتساب المعرفة من ذاته ومع ذاته، من دون معين أو مرشد تسلطي، أو أنموذج بشري سابق.
عشرات الأجنحة المصفوفة، في غابة المعرض، تحثّ عقلي على استرجاع لحظة شعورية غاربة، كنت فيها أشبه بطفل يتعلم الكلام من أصوات الشفاه، وإيماءات الوجوه، وإيحاءات الطبيعة البشرية الغنية بالرغبات والحواس، ولغة الأشياء المترجمة في صور وكلمات مبهمة. كنت أتعلّم، من جديد، أنظرُ وأتذكر، أقرأ وأترجم، وكان شعوري يتراجع بأسرع من برقٍ خاطف إلى غابة الطفولة، حيث الأحياء والأشياء يشرفون من ظلالهم ويومئون باتجاهي: خُذْ أيها الطفل، ايها المتعطش للخطوط والرسوم والشخوص.. خذْ أيها العارف الصغير إنك تولد من جديد في وسط خصب.. استرجعْ بصمت، أو بضوضاء المعرض المحببة، ما كنتَ قد تعلمته من قبل.. أو ابدأ معرفتك من جديد.
امتلكتُ مكتبات عـدة، أُحرقتْ أو أُتلفتْ، ستراً ووقاية من مداهمات ليلية كانت تبحث عن قرينة، لمحو ما تعلمته من قبل، وما عرفتُه وآمنتُ به وناضلتُ من أجله، طيلة سنوات من شظف العيش وكفاف الملبس والطعام. كانت معرفتي تُقطع فجأة بإحدى هذه المداهمات السود، وكنت أبدأ من جديد بعدها في جمع مكتبة، ووصل ما انقطع، مع زيادة في الزهد والاعتكاف والاقتصار الذاتي وتحديد المكان. كنت أسكن غابةً قُطرها كيلو متر واحد، وكانت معرفتي تتسع وترحل وراء هذه الدائرة الضيقة، ولست براغب اليوم بأكثر من هذا القُطر المستدير، أسير بين أجنحته، واسترجع لحظة التأليف الأولى.
تشتدّ هذه الرغبة القديمة يوما بعد يوم، فالكتاب نشأة بين نشآت متعددة، تبدأ من حرف أو إشارة، ثم تتسع لتبلغ قارة مجهولة: أطلنطس غارقة في نصف ظلام من الرغبات البدئية، والمداهمات المفاجئة، والانقطاعات ثم الاتصالات، برغبة أشدّ من قبض روح حان وقت رحيلها من هذه الغابة الساحرة، وما زال شعوري هو هذا نفسه، في تأليف كتاب، لم يؤلـَّف مثيلٌ له من قبل، أُضيفُه إلى كتب الغابة، وما زال شعوري يحبسني في قطرها المستدير، قبل أن يأزف رحيلي إلى دائرة ثانية، نشأة أخرى، تجاورها أو تعلوها أو تتقدم عليها، أو تتراجع عنها إلى نشأة حيّ بن يقظان، أتعلم من جديد، وأُولد من جديد.
سندخل جميعا الغابة المعرفية، ثم نرحل منها وننشأ في دائرة أخرى، تتعدد الدوائر (المعارف)، نأخذ منها ونضيف إليها، دليلاً على صعودنا وانحدارنا ثم انتقالنا، ولن يختلف هذا الشعور كثيراً: إننا ننتقل بين أحياء ابن طفيل، بيقظةِ من وُلِد تواً، في أحضان غابةٍ جديدة، وتعلّمَ شيئاً من جديد.